النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس
اخترع أحد حكماء الهوموسويان في بلاد الرافدين الدولاب في العام 3500 قبل الميلاد من أجل صناعة الفخار، ثم تطور الأمر وأصبح الدولاب من أهم ما تفتق عنه العقل البشري، فسميّ بالعربية الفصحى بالعجلة، لما كان للاختراع من أثر بالغ في إنجاز النقل بعجلة تختصر الوقت وتوفر الجهد، وتفتح الآفاق لأعظم المخترعات الحديثة.
ولكن الأمثال تقول: "العجلة من الشيطان" وتقول أيضاً "في العجلة الندامة"، ورغم هذا فإن الانسانية كلها مدينة للعجلة في تطورها وجعل العالم قرية صغيرة، كما أنّ العجلة كانت تقرب بين المحبّين، كما غنّى محمد عبد الوهاب للقطار، وغنّى عبد العزيز محمود لتاكسي الغرام.
ولم يفت القانون أن يستفيد من العجلة فأفرد في أصول المحاكمات المدنية مواد للأمور المستعجلة وحُبّرت الكتب والدراسات المطولة لقضاء العجلة كان أهمها كتاب الاستاذ محمد علي راتب ، حيث يمكن القول إنّ هذا النوع من القضاء يعتبر مخترعاً هائلاً لأنه يتصدى لظواهر الأمور ويلامس الاساس من غير غوص فيه، فصار لقاضي العجلة الحق بأن يعقد مجلسه في أية ساعة من النهار، وفي أي مكان يجده مناسباً، ويصدر قرراته من غير حجية، لأنها تشكل تدابير مؤقتة لمنع ضرر داهم أو وقف خطر مستشرٍ، مع حفظ حق المتقاضين بالمراجعة والذهاب إلى محاكم الأساس.
هذا ما تعلمناه ومارسناه طوال عقود، وما استقرت عليه المنظومة القضائية مساحة قرنين أو أكثر.
ولكنني، ومن أسف أرى، كما يرى معي رجال القانون أنّ الفوضى القضائية قد استشرت فأصبحت جزرها أرخبيلاً، وَشَهِدْتُ عدداً لا يستهان به من القضاة يهملون الشكل المحصن للحريات، ويتجاوزون أحكامه، كما يذهب بعضهم إلى إسقاط حواجز الصلاحيات النوعية والمكانية، وينسبون لأنفسهم بالإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي صفات مقحمة على النظام القضائي بتقليد فاشل غير مستحق لقضاة إيطاليا الذين أطلق عليهم اسم mains propres، أوالأيدي النظيفة.
كتب سمير عطالله يوم الأربعاء الماضي عن ابن عم له ولد في كندا، وكان غاية في الذكاء رغم فقدان بصره، وهو يشغل الآن منصب قاضٍ في المحكمة العليا، حيث يقوده إليها كلبه المدرّب، سأله :" هل هناك بقية من بصر في عينيك؟" أجابه القاضي: "أنا أعمى كالقانون" فما كان مني إلا أن هاتفته وقلت له:" انا بصير كدولة لبنان".
وعليه فإنني لا أعدّ القرار الذي أصدره قاضي العجلة المستقيل في صور إلا في سياق هذه الظواهر، طالما أنّ أحداً لا يضع حداً للإخلال بموجب التحفظ وأنّ مجلس القضاء يفقد سيطرته وإمساكه بالزمام، بالنظر لنزوع السلطة التنفيذية المزمن للهيمنة، فيما هو مغلول السطوة والقرارات، في وقت يتحرك فيه التفتيش عندما تتحرك الأجهزة الأمنية في السر ويكلّ بصره عن الفوضى المعلنة مخالفاً قول السيد المسيح : "كل ظاهر هو نور، والعلة في المكتوم".
عندما تكون آلة الحكم خربة، تتأثر الحركة القضائية حتماً بذلك وتخسر من دقتها.
فهمت دوافع القاضي مازح الذي راعه ما تفعله أميركا بالأمة العربية، وما تنطق به سفيرتها فارتأى بحسه الوطني أن يستثمر صلاحياته من أجل الوطن، فوضع السفيرة في حجر كلامي لمدة عام، مرتكباً بذلك هفوة مائعة إذ أفقد قراره صفة العجلة عندما ربط المنع بتاريخ زمني طويل ليس له ما يبرره، وجعل هذا المنع مطلقاً، فيما كانت الحصافة تقتضيه أن يحدد تصريحات بعينها تشكل الضرر الذي حاول تلافيه؛ أنا لا ألومه إذن وإن كان في قراره قد أهمل معاهدة فينيا والأعراف الدبلوماسية، لأن ما جاء على لسان رئيس الحكومة يوم الخميس الماضي يؤكد تماثل المشاعر، عندما ضاق ذرعاً بالسفراء وتصريحاتهم فوقع بذلك الحافر على الحافر وانسجم النافر مع النافر.
هنا انتهز هذه الفرصة للطلب إلى قضاة العجلة في لبنان أن يوحدوا اجتهادهم، ويلزموا الدولار الأميركي بقرارات نافذة على أصلها بالجمود عند سقف ثابت تحت طائلة غرامة إكراهية بإهمال التداول به، والذهاب إلى العملات الشرقية.
منذ أيام قليلة التقيت الصديق العزيز الدكتور سامي منصور رئيس محكمة التمييز شرفاً ورئيس معهد الدورس القضائية سابقاً، والمؤلف والاستاذ الجامعي المرموق، فقلت له ممازحاً: "عليك أن تنسى ما تعلمته" فأجابني ببدهية حاضرة: "وكذلك كل ما عَلَّمْتُهُ".
أخيراً، ومن باب الدعابة استعيد لكم مشهداً من فيلم مصري جميل للمخرج شريف عرفة اسمه (سمع هس) عن فنان وفنانة مجهولين وموهوبين، هما حمص وحلاوة، غنيا من تأليفهما وتلحينهما أغنية راق لحنها لمطرب السلطة فنسبه لنفسه وأسقط عليه كلمات حماسية في حب الوطن، فتداولته الاذاعات وأصاب شهرة كبيرة:
كانت الكلمات تقول :
أنا وطني بنشد واطنطن
وتْغَنَّى بعزك يا وطنطن
ساء الفنانَيْن هذا الأمر وأرادا إقامة الدعوى وهما لا يملكان أجرة المحامي، فوجدا واحداً لا يملك من رأسمال الدنيا إلا البيجاما، ومع ذلك لبسها وذهب إلى المحكمة بوقار تام بعد أن طمأن موكليه لحسن النتيجة فاستهجن رئيس المحكمة هذا الازدراء، وقال: "أتأتي بالبيجامة إلى محراب العدالة؟!" أجابه المحامي بثقة تامة: "هذا يجوز في القضايا المستعجلة".