جوني منيّر - الجمهورية
صحيح أنها الجولة الرابعة لوزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن في المنطقة منذ اندلاع الحرب في غزة، لكن يمكن القول انها الزيارة الأولى له في إطار البحث في إرساء التسوية السياسية أو ما بات يُعرف بـ«اليوم التالي».
فمع دخول الحرب الاسرائيلية شهرها الرابع لتصبح الحرب الأطول في تاريخها، باشرت الادارة الأميركية بحثها في طريقة ترتيب النتائج السياسية المطلوبة. لكن مهمة واشنطن لا تبدو طريقها سهلة أو معبّدة خصوصاً من جانب الحكومة الإسرائيلية المتطرفة. صحيح أن التفاهم الاميركي ـ الاسرائيلي كان كاملاً حيال ضرورة تفكيك التركيبة العسكرية لحركة «حماس»، إلا أن الرؤية مختلفة لا بل متضاربة حول «اليوم التالي».
ولم تكن مصادفة أن يكشف وزير الدفاع الاسرائيلي يوآف غالانت نيابة عن حكومته الخطة حول ما بعد وقف إطلاق النار قبَيل بدء بلينكن جولته في المنطقة. وكان واضحاً أن جوهر هذه الخطة يرتكز على تهجير الفلسطينيين من غزة ولو تم التمويه بالدعوة الى ذلك «طوعاً». وهو ما يفسّر بتَحايل مكشوف، خصوصا بسبب الواقع المعيشي والأمني والتجويع المتعمّد وانتفاء المأوى للغزاويين، وبالتالي دفعهم للرحيل الى البلدان المجاورة.
ولم تكن تلك الاشارة السلبية الوحيدة التي أقلقت واشنطن، فثمة ما هو أخبث وأخطر. إذ إنه وفق المعلومات التي وردت الى العاصمة الأميركية فإنّ اسرائيل عمدت الى وضع إسم جديد لعملياتها العسكرية هو «jenesis». وهذه الكلمة من أصل يوناني ومأخوذة من التوراة وتتعلق بخلق العالم من جديد من خلال سفينة نوح، وبالتالي فإنها تعني العودة الى سفر التكوين. ولا حاجة الى كثير من البحث للإستنتاج أن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة تنظر الى الحرب الدائرة على انها بمثابة حرب تأسيسية وتسعى الى فرض هذا المفهوم على الجميع.
وبالتالي، فإنه من المنطقي التكهّن بأن مهمة بلينكن ليست موضع ترحاب إسرائيلي. لا بل يمكن التكهن في أن ضرب السكاكين يمكن أن يحصل في وقت ليس ببعيد ولكن مع فارق أساسي. فرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو تلزمه مصلحته الداخلية بالاندفاع الى الأمام أكثر عبر الارتماء في أحضان الاحزاب المتطرفة وتبنّي «جنونها» والتملّص من الضغوط الأميركية من خلال الادعاء أنه ضمن تحالف حكومي صعب ويديه مقيدتان ويخشى انفراط عقده. وهو ما يعني عدم السعي الى وقف آلة القتل والمجازر، خصوصا أن إعلان انتهاء الحرب سيعني الذهاب الى انتخابات جديدة وفتح قاعات المساءلة والمحاكمة القضائية. أضف الى ذلك أنّ ما يشجّعه على استهلاك مزيد من الوقت في الحرب هو تحسّن طفيف في شعبيته. صحيح أنه ما يزال بعيداً مع وجود نسبة 64 % من الاسرائيليين غير راضية عن أدائه، لكن هذه النسبة كانت قد تجاوزت السبعين في المئة سابقاً.
وعلى الضفة الأميركية هنالك ما يشجّع الحكومة الإسرائيلية على الذهاب الى «حرب طويلة في غزة واحتمال توسّعها الى جبهات أخرى محتملة « كما صرّح غالانت. فإدارة جو بايدن دخلت في السنة الانتخابية الصعبة، وإشارات الضعف تتزايد وكان آخرها ما حصل مع وزير الدفاع. ولا شك في أنّ الخصم الانتخابي الشرس دونالد ترامب سيسعى الى توظيف إخفاق ادارة بايدن في الشرق الأوسط لمصلحة حَملته. وهذا يشكّل في حَد ذاته عاملاً لمصلحة حكومة نتنياهو لاستهلاك الوقت وإطالة أمد الحرب.
ووفق هذا المنطلق تصبح الحرب الصغرى المفتوحة في جنوب لبنان خطرة، وامكانية توسعها وانفلات عقالها واردة. فالضغط الأميركي يصبح أقل تأثيرا. وثمة عبارة جديدة بدأ التداول بها نقلاً عن اسرائيل، ومفادها أنّ معادلة توازن الرعب التي كانت قائمة بين لبنان وإسرائيل انتهت وأصبحت من الماضي ولا بد من معادلة جديدة تقوم على ثوابت مختلفة. الى درجة أنّ ديبلوماسي أوروبي نقل عن الحكومة الإسرائيلية أنها ستسعى للذهاب في هذا الاتجاه حتى لو توسّعت الحرب، وأنّ مدة التفاوض ليست مفتوحة.
ولذلك زار منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بيروت بعد تفاهم مُسبق مع واشنطن. هو حمل في يده القرار 1701 وعدد من التحذيرات، ولكنه حمل الرسالة الأهم من خلال لقائه بالنائب محمد رعد كممثل رسمي لـ»حزب الله: بعد أن غاب التصنيف «الارهابي» الذي اعتادت عليه العواصم الغربية باستثناء باريس، وهي إشارة لها دلالاتها المستقبلية.
ويصل المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الى بيروت وهو يحمل مزيجاً من الأفكار المتضاربة في بعض الأحيان، كمثل ترك مزارع شبعا جانباً ولمرحلة أخرى. وقد يكون المقصود هنا التمهيد لترتيب الحدود اللبنانية ـ السورية البرية في المرحلة اللاحقة.
صحيح انّ الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله كان قد وَجّه إشارة إيجابية عندما تحدث عن وجود فرصة تاريخية لتحرير كل الاراضي اللبنانية في إشارة الى الحدود اللبنانية، إلا أنه ألزمَ نفسه بعدم الذهاب الى مفاوضات وتفاهمات الا بعد وقف الحرب في غزة.
والافكار التي سبقت وصول هوكشتاين تحدثت عن المنطقة الخالية من السلاح على الأقل ظاهراً وفوق الأرض، أما تحت الأرض فقواعدها مختلفة، وإيلاء دور أفعل لقوات الطوارىء الدولية (اليونيفيل) الى جانب الجيش اللبناني، على أن يبقى هذا التفاهم بتفاصيله الحساسة بعيداً عن التداول الاعلامي، إضافة الى مطالب لبنانية حول الالتزامات المطلوبة من الجانب الاسرائيلي.
وثمّة نقاط أخرى تبدو شديدة الحساسية، فإذا كان الهدف الاساسي من ترتيب الوضع جنوباً وفق المعنى الإقليمي هو فك الاشتباك وإزالة خط التماس الايراني ـ الاسرائيلي عبر الساحة اللبنانية، فإنّ ما يطرحه الغرب هو حول مستقبل القرار السياسي للمخيمات الفلسطينية في لبنان.
وتروي أوساط ديبلوماسية مطّلعة أنّ اغتيال المسؤول الكبير في حركة «حماس» صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت حمل رسائل عدة مثل تلك المتعلقة بالعلاقة بين «حماس» و«حزب الله» وإيران، إضافة الى الرسالة الأمنية لـ«حزب الله» في معقله في الضاحية الجنوبية. لكن ثمة رسالة إضافية، وفق المصدر نفسه، وتتعلّق بوضع «حماس» مستقبلاً داخل مخيمات لبنان. ذلك أنه بعد اندلاع حرب غزة ظهرت أفكار حول إمكانية نقل قيادات حماس لاحقاً الى مخيمات لبنان في ظل ارتفاع كبير في شعبيتها داخل هذه المخيمات. وبالتالي، جاءت الرسالة في هذا الاتجاه أيضاً.
وعلى رغم من الأهمية الفائقة التي تتركّز حول المرحلة الخَطرة في جنوب لبنان وحركة الموفدين والمشاريع الموضوعة بين أيديهم، إلا أن ثمة «خلطاً» بين الحلول جنوباً والحلول الرئاسية. الى درجة أنّ البعض بات يتحدث عن ترابط أو مُقايضة بين الملفين. صحيح أنّ الخيال اللبناني خَصب لكن الاشارات الدولية واضحة في الفصل بين الملف اللبناني ـ الاسرائيلي والذي يحمل طابعا إقليميا بامتياز، وبين الملف الرئاسي الذي تبقى عناصره ومقوماته داخلية بمقدار كبير.
لذلك، كان تركيز بوريل على ملف الحرب مع اسرائيل وكذلك سيفعل هوكشتاين باستثناء الإشارة الى وجوب إتمام الاستحقاق الرئاسي. أما هذا الملف فهو في عهدة مجموعة الدول الخمس وعبر موفدها جان إيف لودريان لذي سيزور بيروت قريباً.
ومع مطلع السنة الحالية جرت اتصالات تَولّتها باريس بين مجموعة الدول الخمس وتم التفاهم مبدئياً على ضرورة عودة لودريان الى بيروت في جولة رابعة، ولكن متسلحاً هذه المرة بمقررات مفصّلة يجب أن تصدر عن اجتماع الدول الخمس.
وتضيف المعلومات أنّ كل الدول أعطَت موافقتها المبدئية من دون الاتفاق على موعد محدد ولو أنّ الانطباع الغالب هو وجوب حصول الاجتماع قبل نهاية الشهر الجاري. ولكن مصر طلبت أن يحصل الاجتماع في القاهرة بدلاً من باريس لأنّ الاجتماع الأول سبق أن حصل في العاصمة الفرنسية والثاني في العاصمة القطرية، كما أن الوضع يفترض حصول اللقاء الثالث في عاصمة عربية. ولم يسجّل اعتراض أي دولة على الطلب المصري على رغم من عدم الاتفاق بعد على موعد محدد لهذا اللقاء.
لكنّ النقاشات الدائرة تحضيراً للقاء شددت على وجوب الانطلاق في سلوك أفعل وأكثر تحديداً نظراً الى وجوب مواكبة الظروف الخطرة الموجودة، وبالتالي السعي الى انتخاب رئيس لحماية الدولة اللبنانية من المخاطر المشرّعة ومواكبة الحلول والتسويات الجاري طرحها.
وتم التفاهم على اصدار بيان ختامي يشكل خريطة طريق مفصّلة تتضمن عرضاً لِما توصّلت اليه جولات لودريان الثلاث، وبالتالي القفز فوق المرشحين الذين تم الاقتراع لهما في الجلسة الأخيرة، أي سليمان فرنجية وجهاد أزعور، والذهاب الى إسم ثالث من دون تحديد أو تزكية أي إسم. وكان لودريان قد أورد ذلك صراحة في ختام جولته الأخيرة في بيروت. والجديد هو تبنّي الدول الخمس لرؤية لودريان مع التشديد على وضع برنامج زمني تصاعدي وصارم يؤدي الى انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال الأشهر القليلة المقبلة.
ووفق هذه الحالة يمكن الاستنتاج أنّ الربط بين الجنوب وقصر بعبدا غير وارد على المستوى الدولي، خصوصاً وسط ارتفاع منسوب الخطر من انزلاق الوضع الى الحرب المفتوحة.