جورج شاهين - الجمهورية
أوحى الغليان الديبلوماسي الذي يواكب العدوان الاسرائيلي على قطاع غزة وجنوب لبنان انّ هناك ورشة دولية تسعى الى تجاوز عجزها عن وقفه ووضع حد للمجازر بعدما اعطيت اسرائيل اكثر من مهلة لتحقيق أي انتصار يرضيها ولو كان وهمياً. وان توغّل المراقبون في تحركات الموفدين لا يمكنهم تجاهل التناغم القائم بين الأميركيين الساعين الى وقف النار والاوروبيين المجتهدين لرسم صورة «اليوم الاول» بعد الحرب. وعليه، ما هي المؤشرات؟
لم يكن غائباً عن بال المراقبين انّ الحراك الدولي والاممي الذي تشهده الساحة اللبنانية ومعها ساحات المنطقة، والأبعد منها من تلك التي تتعاطى مع الحرب في قطاع غزة وجنوب لبنان حديثاً، يهدف الى وضع حدّ لها. فهي ورشة عمل قائمة منذ اليوم التالي للحرب وقد تطورت الامور عندما خصصت لها مجموعة من القمم المصغّرة والموسعة التي تعطل بعضها في اللحظات الاخيرة كحال القمة الاميركية - الاردنية - الفلسطينية والمصرية في عمان، التي ألغيت عشيّة زيارة الرئيس الاميركي جو بايدن الاولى للمنطقة بعد اقل من اسبوعين على عملية «طوفان الاقصى» والرد الاسرائيلي عليها بعملية «السيوف الحديدية».
وهي، وإن كانت القمة «الشهيدة» قبل ان تولد، والتي دفعت ثمن مجزرة «مستشفى المعمداني» في قطاع غزة، فقد تلتها مجموعة قمم أخرى يمكن الاشارة الى بعضها بدءاً بـ»مؤتمر القاهرة للسلام» الذي لم تتمكن 42 دولة شاركت فيه من التوصل الى بيان ختامي. وقد كان ذلك قبل ان تُعقَد القمتان السعودية - الإفريقية والعربية ـ الاسلامية الاستثنائية التي جمعت 57 دولة في الرياض في 11 و12 تشرين الثاني، عدا عن القمم التي شهدتها القاهرة وعمان والاجتماعات الماراتونية في الدوحة على مستوى قادة اجهزة المخابرات الاميركية والاسرائيلية والمصرية برعاية وزارة الخارجية القطرية وما رافقها من جولات مكوكية للخلية الوزارية الخماسية التي شكّلتها قمة الرياض ورؤساء الدول في اتجاه تل ابيب ووزراء الخارجية الاميركية والفرنسية والبريطانية والالمانية والايرانية وغيرهم مِمّن جالوا على العالم بحثاً عن آلية تضع حداً للحرب قبل رعايتها «الهدن الانسانية»، التي أخرجت بعض المعتقلين من السجون الإسرائيلية وبعض الأسرى لدى «حماس» وحاملي الجنسيتين الاسرائيلية والغربية على اختلاف مشاربهم وبعض الروس والآسيويين من سكان القطاع.
لم تكن الإشارة الى هذه التحركات التي لم يَنته ايّ منها الى مخرج للحرب لمجرد تأريخها بمواعيدها الحساسة التي تزامنت مع مجموعة المجازر التي ارتكبها الجيش الاسرائيلي في القطاع والعمليات العسكرية في الضفة الغربية وتسليح المستوطنين لمهاجمة القرى الفلسطينية. ذلك انّ كل هذا الحراك ترافقَ مع مجموعة المحاولات في مجلس الأمن الدولي لاستصدار قرار بوقف النار 7 مرات متتالية بعدما عطّلت معظمها الولايات المتحدة الاميركية بما امتلكته من حق النقض، فيما عطّلت روسيا والصين واحدة منها فقط عندما كان مشروع القرار اقتراحا اميركيا على رغم من التحولات التي شهدتها أروقة مجلس الأمن في المحاولتين الأخيرتين التي انتقلت فيها فرنسا من موقع المعارض لوقف النار الى موقع الموافق، وحرصت بريطانيا على التمنّع عن التصويت في آخر محاولة قامت بها دولة الامارات العربية المتحدة وروسيا بدعم صيني.
وقياساً على حجم هذه التطورات، يبقى لافتا التوقف أمام تراجع الحركة الدولية على مستوى القمم وعلى مستوى حركة قادة الدول الذين واصلوا اتصالاتهم شبه اليومية، لتنتقل محاولات التهدئة ووقف التصعيد الى المبادرات الفردية التي قام بها عدد كبير من وزراء الخارجية والدفاع ومديري أجهزة المخابرات في الدول المعنية، لا سيما منها تلك الزيارات المكوكية التي قام بها وزراء خارجية الدول المنخرطة في النزاع زائد إيران، حيث بدأت تتبلور بعض السيناريوهات الممهدة لقرار وقف التصعيد تمهيداً لوقف النار ولجم مسلسل المجازر والفظائع التي حصدت حتى الامس القريب نحو 22 الف شهيد فلسطيني معظمهم من النساء والاطفال و109 اعلاميين عدا عن عائلاتهم ونحو 10 آلاف مفقود ما زالوا تحت الانقاض وما يزيد على 60 الف جريح، وهو رقم خيالي لم تشهده أي حرب في مئويتها اليومية الأولى.
وعليه، يمكن للمراجع الديبلوماسية عند قراءتها الجديد الذي توصّل اليه الحراك الدولي والاممي ان تستشِف منه عملية توزيع للادوار قد بدأت تتضِح، نتيجة التواصل بين القوى الدولية والاممية بحيث انّ بعضاً منها بات متخصّصاً في البحث عن «اليوم التالي» للحرب لمقاربة ما يمكن ان يكون عليه الوضع في قطاع غزة ولبنان. وإمكان اجتثاث مصادر التوتر القديمة التي نَمت وتناسلت طالما انه لم يتوافر أي حل شامل يتناول «الاسباب العميقة» التي أدّت الى مسلسل الحروب العربية والفلسطينية ـ الاسرائيلية بمختلف جولاتها الممتدة، منذ قيام الدولة اليهودية على الأراضي المحتلة وإسقاط معظم الحقوق الفلسطينية التي قالت بها مقررات قمة أوسلو عام 1993 لجهة قيام الدولة الفلسطينية على اراضي الضفة والقطاع. وهو مشروع أسقطت اسرائيل مقوماته قبل ان تستكمل المنظمات الفلسطينية المعارضة للسلطة الوطنية التي كَوّنتها منظمة التحرير بمختلف فصائلها الإجهاز عليها. فتهاوَت مكتسبات «العودة» ومشاريع «بناء السلطة» منذ ان دمّرت إسرائيل «مطار رفح» في جنوب القطاع والذي تغنّى به الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عند افتتاحه عام 1998 بعد مفاوضات طويلة مع إسرائيل، قبل ان تدمّر الاخيرة منشآته وأبراج راداراته في 1 كانون الأول عام 2001 وتقوم بجَرف مدارجه في 1 كانون الثاني 2002.
على هذه الخلفيات، رصدت مراجع ديبلوماسية عملية توزيع الادوار، فرأت في الحراك الاوروبي ما يمهّد للهدف الأميركي لوقف الحرب. فالجولة الواسعة التي يقوم بها مسؤول العلاقات الخارجية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل التي انطلقت مطلع السنة الجديدة بالإنابة عن 27 دولة أوروبية من تل أبيب ورام الله قبل بيروت، واستكمالها في الرياض في مسعى لرسم صورة ما بعد وقف الحرب وهو ما باتَ يُعرف بـ»اليوم الاول» في قطاع غزة ولبنان في آن معاً. بدليل انّ بحثه تركّز، بالاضافة الى الوضع في جنوب لبنان، على شكل السلطة الجديدة التي ستدير قطاع غزة وهو ما ظهر جلياً في زيارته لبيروت وبقية العواصم المستهدفة في جولته.
وعليه، فقد لفت مسؤولو الاتحاد الأوروبي الى انّ بوريل الذي توقف في بيروت عند الوضع في جنوب لبنان ومصير القرار 1701 عَبّر عن اقتناعه في نهاية الزيارة باستحالة البحث في اي جديد قبل وقف النار في غزة. وقبل ان يتناول مع كل من وزيري الخارجية السعودي فيصل بن فرحان والاردني ايمن الصفدي مصير قطاع غزة في اليوم الذي يَلي الحرب وطريقة بناء السلطة الجديدة متحاشياً البحث في ما يؤدي الى وقف النار تاركاً المهمة لوزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن الذي يجول مُتعمّقاً في مجموعة من الاقتراحات، وهي محاولة مستمرة لفرض رؤية الادارة الاميركية باستحالة بقاء الاحتلال الاسرائيلي لغزة ورفض «الترانسفير» الفلسطيني وإنهاء وجود حركة «حماس» كسلطة فيها لاستحالة البحث في الفكرة التي عبّرت عنها عملية «طوفان الاقصى» التي جمعت الفصائل الفلسطينية كاملة الى جانبها وخلفها بمختلف وجوهها في القطاع والضفة.