الجمهورية
طوني عيسى
طلب الأميركيون من إسرائيل وقف عملية التدمير والتهجير غير المحدودة في غزة، وحذّروها من توسيع نطاق الحرب نحو لبنان والضفة الغربية. ولأنّ بنيامين نتنياهو يريد استمرار الحرب أشهراً أخرى، فقد أطلق مواجهة من نوع آخر، قد يكون أقل تدميراً، لكن تداعياته السياسية أشدّ خطراً: الاغتيالات والعمليات الخاطفة.
المعلومات التي تردّدت في الخريف الفائت، عن أنّ واشنطن منحت إسرائيل مهلة أقصاها نهاية العام لإنهاء حرب غزة وتحقيق ما أمكن من الأهداف السياسية هناك، تبين أنّها صحيحة. وتنفيذاً لذلك، سحب الأميركيون حاملة الطائرات العملاقة «جيرالد فورد»، فيما فعَّل الإسرائيليون أسلوب الضربات الخاطفة والاغتيالات على امتداد الشرق الأوسط، من الجنوب اللبناني حيث يتوالى استهداف كوادر «حزب الله» في أماكن تُعتبر بعيدة نسبياً عن الحدود، وفي ضاحية بيروت الجنوبية حيث تمّ استهداف القيادي في «حماس» صالح العاروي، إلى دمشق ومحيطها، حيث جرت تصفية القيادي في الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي قبل أيام، والمسؤول البارز في «حماس» في سوريا، حسن عكاشة، قبل يومين.ويمكن في هذا السياق إدراج العملية التي استهدفت كوادر من «الحشد الشعبي» في بغداد، قبل أيام. وأما الضربة العنيفة التي طاولت، تزامناً، حشود الإيرانيين على قبر قاسم سليماني في كرمان، وأوقعت أكثر من 100 قتيل، فيصعب وضعها في السياق إياه، لكن المسؤولين الإيرانيين اتهموا الولايات المتحدة وإسرائيل بالوقوف وراءها.
إذاً، تجاوبت إسرائيل نسبياً مع واشنطن وحلفائها الغربيين، وقلّصت من حجم المجازر وعمليات التدمير في غزة، بمقدار معيّن، لكنها فتحت حرباً أخرى خارجها، وعلى مسافة كيلومترات قليلة، أو ربما المئات أو الآلاف من الكيلومترات، من حدودها. وثمة أسباب عدة تدفعها إلى اعتماد هذا الأسلوب:
1- لا يتحمّل الأميركيون وحلفاؤهم الأطلسيون نزفاً بالذخائر والأموال بلا حدود، في بقعة ضيّقة من الشرق الأوسط، فيما هم مهدّدون فعلاً بخسارة الجبهة في أوكرانيا.
2- هم لا يتحمّلون أيضاً فكرة ارتكاب المجازر والتدمير والتهجير إلى ما لا نهاية، على مرأى من المجتمع الدولي والعرب والمسلمين، حتى أولئك الذين يقيمون علاقات طيبة مع إسرائيل وباشروا معها مسارات التطبيع.
3- تدرك إدارة جو بايدن مخاطر انزلاقها المتدرّج في الفخ الذي يدفعها إليه نتنياهو في الشرق الأوسط، هي التي بذلت كل الجهود للانسحاب من وحول المنطقة، وتحديداً من سوريا والعراق وأفغانستان.
4- الأهم أنّ إدارة بايدن لا تريد قطع الخيط الموصول بينها وبين طهران، والذي كشف عنه سفير طهران في دمشق حسين أكبري، إذ أعلن أنّ وفداً من دولة خليجية زار إيران قبل 10 أيام، حاملاً رسالة من الأميركيين، تطرح إمكان التوصل مع إيران إلى تسوية شاملة على مستوى الأزمات في الشرق الأوسط كله.
إذاً، تقليص كثافة النار والدماء والغبار في غزة - نسبياً وبمقدار طفيف- يتذرّع به نتنياهو للانطلاق في الضربات الخاطفة البعيدة عن بقعة الحرب. وهو يستغل الفرصة للحصول على ضوء أخضر يسمح له بتنفيذ اغتيالات على مستويات رفيعة، في شمال خط الليطاني حتى ضاحية بيروت الجنوبية. وهذه المنطقة كانت تحظى منذ العام 2006 والقرار 1701، بتغطية دولية، وامتنعت فيها إسرائيل عن تنفيذ ضربات جوية، على رغم أنّها بقيت تضرب أهداف «الحزب» في سوريا يوتيرة شبه منتظمة.
ويستغل نتنياهو أسلوب الضربات والاغتيالات للحدّ من بشاعة صورة الحرب التي يشنونها على غزة، والتي لا تراعي المدنيين، وتعتمد التدمير المجاني للأحياء والبنى التحتية. ومن شأن أسلوب الاغتيالات والضربات المحدّدة في مناطق بعيدة من أرض المعركة، أن يصور نتنياهو ورفاقه وكأنّهم يقاتلون كوادر «حماس» و«حزب الله» والحرس الثوري الإيراني ضمن القواعد التي تسمح بها الحروب، أي استهداف العسكر أو الرؤوس المدبّرة للخطط العسكرية وتجنّب المدنيين، علماً أنّ هذه العمليات تشكّل في ذاتها انتهاكاً للقوانين الدولية، وغالباً ما يكون هناك مدنيون بين ضحاياها.ولكن هذا الأسلوب قد تكون تداعياته السياسية أخطر من الحرب الدائرة في بقعة غزة، لأنّه قد يستدعي رداً أو ردوداً لا يمكن تقديرها. فأسلوب الاغتيالات يعني أولاً توسيع الدائرة الجغرافية للحرب، ليشمل تنظيمات ودولاً في شكل مباشر، وعلى جبهات مختلفة، في آن واحد.
وكذلك، من شأن استهداف المسؤولين والقادة والكوادر، على مستويات رفيعة، أن يشكّل استثارة مباشرة للطرف المستهدف تدفعه إلى الردّ فوراً وبقسوة. وهذا ما قد يُنذر بمواجهة أكبر وأخطر، ما لم تتمكن الولايات المتحدة من وضع ضوابط لها، كما تعمل اليوم لوضع ضوابط للعمليات العسكرية في غزة.