الصحافيون اللبنانيون بين زمنين: ذكريات ووقائع
الصحافيون اللبنانيون بين زمنين: ذكريات ووقائع

خاص - Tuesday, January 2, 2024 9:29:00 AM

جوزف القصيفي    

في فترة الأعياد إختليت بذاكرتي استنطقها، وعدت معها القهقرى إلى سنوات بعيدة، مستعيدا صورة الصحافي الذي كان يجتهد في تقفي اثر الخبر، وقنصه إذا جاز التعبير. 

 لم تكن وسائل الاتصال المتاحة لصحافي اليوم متوافرة لنظيره صحافي الامس، ولا وسائل النقل نظرا للرواتب المتدنية، وضعف إمكانات  الصحف الورقية التي كانت هي الرائجة،وتواضعها.

لم تكن هناك إذاعات سوى الإذاعة اللبنانية التي انبثقت من رحم راديو" الشرق"، ولا محطات تلفزة سوى تلفزيون لبنان باقنيته الثلاثة :القناة 7  بتلة الخياط في بيروت، والقناة 11في الحازمية ،وما بينهما القناة 9 التي كانت تبث بالفرنسية. وبالمقابل كانت هناك وكالات انباء عربية ودولية تستقطب مجموعة من الصحافيين المميزين المشهود لهم بالكفاية والدقة في التمييز بين الاخبار صحيحها  من زائفها، وتلك التي يغشوها الالتباس، أو تفتقد إلى المنطق والموضوعية.

ومن دون أن ننسى بالطبع وكالات الانباء المحلية التي كانت تتولى تغطية الاخبار اللبنانية لغاية الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر ايام عملها. وكان الصحافيون لا يكتفون باتصالات هاتفية،ولا بما تحمله وكالات الانباء من معلومات وتنقله من تصريحات السياسيين،بل كانوا في موقع الحدث او امكنة الاجتماعات التي يعقدها الاقطاب، والكتل النيابية والاحزاب، وكان للصداقة التي ينسجونها مع هذا وذاك الدور البارز في الحصول على خبر خاص، أو " خبطة" اعلامية والتفرد بنشرها .وكثيرا ما كان هؤلاء ينتظرون خارجا حتى ارفضاض عقد المجتمعين،لاستصراحهم والظفر بموقف يكون له الوقع والدوي، وغالبا ما" تطلع سلتهم فاضيه."وكان بعضهم ينتظر مغادرة زملائه للانفراد بهذا النائب أو ذاك الوزير والمتنفذ للفوز بما يروي غليلهم من أجواء غير متداولة ، ومعلومات خاصة يعززون بها تغطياتهم. وكانوا يحتملون الحر والقر على مدار السنة من دون تبرم.  ويقطعون المسافة بين مكان الحدث ومكاتب صحفهم سيرا على الاقدام اذا تقدم بهم الليل وتعذر عليهم استخدام " الترامواي"، ومن بعد الباص الذي كان يتوقف عن التجوال بين المناطق والشوارع عند الساعة الحادية عشرة ليلا،أو إذا استحال عليهم العثور على " سرفيس" أو عجزهم عن طلب " تاكسي" .نادرا من كان يمتلك منهم سيارة خاصة، وإن وجدت لدى احدهم ،كانوا " يحشرون انفسهم" فيها لتقلهم إلى الاماكن الأقرب إلى مقرات عملهم التي غالبا ما تقع في وسط العاصمة التي تضج بالحياة، فلا تنام البتة ،شاهدة على تواصل  الليل بالنهار في دورة الحياة . وكان الصحافيون يستخدمون الهواتف في الدكاكين والحوانيت المجاورة لمواقع الحدث او أماكن الاجتماعات،إن وجدت ،  واذا كانت صدور اصحابها تتسع لهم،خشية أن تستغرق مكالماتهم وقتا طويلا ،وهي المخصصة اصلا لتلقي طلبات الزبائن.

ثم بدأت الأمور تتطور نحو الأفضل مع بروز " الكاسيت" التي كانت تسجل التصريحات قبل أن يتم تفريغها بتعاون الجميع، لأن الكتابة الفورية على الورق كانت تستلزم جهدا مضاعفا : ذاكرة وقادة، قدرة على اللحاق بالمستصرح الذي كان يتكلم بسرعة يصعب الإحاطة بها. كما تستلزم استيعابا  ورشاقة في التدوين. بعد ذلك جاء " الفاكس" الذي سهل عليهم إرسال المادة بالسرعة القصوى، ووفر عليهم مشقة الانتقال إلى صحفهم. 

 اليوم وفي عصر الحضارة الرقمية، وبوجود " الانترنت"، وال " واتساب" انتفت الحاجة إلى كل تلك الأساليب.             وبرغم هذا التطور الهائل في وسائط التواصل والاتصال، فإن ثمة أمرا مختلفا بات يفتقد اليه صحافيو أيامنا هذه ، وهو الاحتكاك المباشر والدائم مع صناع الحدث. فقد كانت في بيروت " ديوانيات" سياسية يرتادها الصحافيون يوميا منذ الصباح الباكر تبدأ مع العميد ريمون اده في مكتبه الكائن في بناية قريبة من المجلس النيابي في ساحة النجمة ،حيث تدور أحاديث شتى، وتقوم حوارات صاخبة وطريفة لا تخلو من مماحكات، ولطشات لاذعة من العميد العنيد الذي لا يوفر لسانه أحدا ولاسيما رئيس الكتائب بيار الجميل الذي كان يرفض الرد عليه مكتفيا بمقولته الشهيرة" إن العميد إده ساخط على ربه لأنه خلقني". ومن ساحة النجمة إلى مكتب الرئيس شمعون في مبنى " اليونيفرسل" في شارع " فردان" ،وكان الصحافيون يلتقون فيه النواب والوجهاء، ورجال الاعمال، وووفودا  من مختلف المناطق ،فلا فرق بين غني أو فقير ،وارستقراطي وشعبي، ولا يخلو الأمر من تصريح ناري، ونكات تحمل اكثر الوجوه عبوسا على الضحك بل القهقة.

ومن" فردان" إلى " المصيطبه".الى دارة الرئيس صائب سلام التي كانت تستقطب عددا وافرا من الصحافيين الذين كانوا يأنسون إلى " ابي تمام" الذي ينتقد مقالة هذا او يثني على تحليل ذاك، ويعلق على الاحداث بحماسة ما بعدها حماسة وهو ينفخ سيكاره ويزهو بالقرنفلة البيضاء تزين منه عروة السترة. صحافيون من كل المشارب والاتجاهات والطوائف لا يضيق بهم صدر " صائب بك" الذي كان يعرفهم واحدا واحدا، ولا يرفض لهم خدمة اذا استطاع إلى ذلك سبيلا. ومن دارة سلام إلى " فرن الحطب" حيث منزل الزعيم كمال جنبلاط الذي كان يرحب بالصحافيين بلطف وهو مسترخ على كرسيه الهزاز يشرح نظرية فلسفية، يتابع موضوعا حيويا، ينتقد بأسلوب ساخر مواقف هذا السياسي او ذاك، وعندما يشعر بأنه تمادى بعض الشيء كان يتمنى عليهم عدم نشر ما صدر عنه لمصلحة البلد ،رغبة منه في استبقاء شعرة معاوية مع آلاخر. واذا لمس جنوحا لدى احدهم عن هذه الرغبة كان يحاذره ويهمله بعدم الالتفات اليه. ومن " فرن الحطب" إلى منزل النائب كاظم الخليل في شارع فؤاد الاول،ومن ثم قرب مستديرة شاتيلا، فالحازمية، وكانت دارته "منزولا" يفد اليه وزراء وونواب،  واصدقاء إضافة إلى مناصريه. وكثيرا ما شهد منزله " طبخات" سياسية، أو إطلاق مبادرات معينة .وغالبا ما يكون  الصحافيون من بين الحاضرين يستمعون إلى آراء الخليل وتحليلاته، واقتراحاته، وينقلون عنه الاجواء، عدا التصريحات التي كان يدلي بها.  وكان الاخير يستبقي دائما الجميع إلى مائدته العامرة بالاطباق اللذيذة،حيث كلام  على طعام. وعندما كان يزور الرئيس سليمان فرنجيه بيروت آتيا من الشمال ،خصوصا في المراحل التي لم يكن فيها متوليا  حقيبة وزارية، كان يلتقي بالصحافيين في منزل كريمته لمياء،وكان ودودا، متحفظا، يدرس اجاباته على أسئلة الزملاء متوخيا الحذر والدقة، ودائما بأسلوب يسوده التهذيب ،مع حرص على إيصال الرسالة الى من يجب أن تصله. أما الرئيس رشيد كرامي، فكان يفسح للصحافيين في منزله البيروتي يحاورهم بذكاء، وجد يخالطه الظرف والسخرية احيانا. وقد تسنى لي أن أشارك في هذه الديوانيات مع زملاء باتوا في ذمة الله،ومنهم من يزال على قيد الحياة. واستطيع القول ان  الحرارة والدفء الانسانيان ،كانا يسمان العلاقة بين الصحافيين وساسة ذلك الزمن. ولم تكن هناك حواجز تفصل في ما بينهم. 

لقد تبدل الزمن. والمهنة تأثرت بعوامل الحداثة، وعصر السرعة. فالصحف الورقية تقلصت وباتت اقل من أصابع اليدين عدا، ووكالات الانباء المحلية اندثرت، ومحطات الإذاعة والتلفزة اطاحت حصرية الاعلام الرسمي لها، وزحفت " المواقع" الالكترونية جارفة في طريقها الاعلام التقليدي، وعمت وسائل التواصل الأخرى من " واتساب" ومنصةx وانستاغرام وسواها، ولم يعد الاحتكاك المباشر بين الصحافي والسياسي صانع الحدث ضرورة أو اولوية، طالما ان الاخير بات قادرا  بمفرده أو عبر مستشار تغطية نشاطاته، وكتابة تصريحاته وتوزيعها، من دون أن يعني ذلك قطع صلاته مع الصحافيين والاعلاميين الذين يلتقيهم في مناسبات يختارها هو، أو بالمصادفة في استحقاقات متفرقة.   

 نادرة هي اللقاءات المباشرة هذه الأيام وهي أصبحت حقيقة لا يمكن انكارها وذلك بسبب التطور الهائل الذي سهل عملية التواصل عن بعيد وابدل العلاقة الانسانية الحميمة والمباشرة بين الناس بعلاقة وثيقة بين الأفراد وحواسيبهم، وهواتفهم الخلفية  وجهاز ال" آي بايد". والخرق الوحيد  هو " التمشاية" المسائية مع رئيس المجلس النيابي الرئيس نبيه بري والتي يشارك فيها زملاء من مختلف وسائل الإعلام ،فينقلون عنه مواقف وانطباعات وآراء حول مختلف الموضوعات، وغالبا ما تتعلق بقضايا طارئة أو أحداث مهمة وطارئة. و" التمشاية" هذه هي " ميني ديوانية" تكرس الاتصال المباشر بين المسؤول والصحافي ،ولو على نطاق ضيق نسبيا.   

أيام استذكرها بشيء من حنين متمنيا لو تعود ،لكنها لن تعود. فالزمن يتغير ويتبدل، ويندفع بقوة السيل إلى مدارات جديدة. ولسنا نملك الا القول : سقيا لها.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني