الشاعر هنري زغيب
أَيَّامًا مُقلِقَةً ظلُّوا يتابعون الإِعلامَ، محليَّه والغربيَّ، يتسقَّطُون منه آخرَ ما يَحدُثُ في غزّة وجنوب لبنان: قلوبُهُم صوبَ لبنان، يأْتون إِليه ميلادًا ورأْسَ السنة يُمضون أَيامًا عذبةً بين أَهلٍ وأَحبَّة، وعقولُهم إِلى الإِعلام تتأَرجح بين الخوفِ جنوبًا من اتساع مساحة القصف، والقلقِ بيروتًا من تعطُّل المطار.
مع ذلك، جاؤُوا... تغلَّبُوا على ذينِك الخوف والقلق، وجاؤُوا... بالآلاف جاؤُوا... حاملين حُبَّهم والحنينَ جاؤُوا... وامتلأَت بهم الطائرات، وزغْرَدَت بهم المطاعم، وعيَّدَت بهم الساحات والشوارع، وعمُرَت بهم فرحةُ العائلات في البيوت...
في غُصَصهم ما يجري في غزَّة وجنوب لبنان لكنَّهم مدركون أَنَّ ما قد يُسْهمون به من بياناتٍ واحتجاجاتٍ واعتصاماتٍ وتظاهرات لن يؤثِّرَ في صَلَف عدُوٍّ صهايني لم تَردَعْهُ حتى الآن قراراتٌ دوليةٌ من الأُمم المتحدة ولا في مجلس الأَمن. فماذا ينتظرون؟
لذا جاؤُوا... مشتاقين إِلى أَهاليهم والأَصدقاء ومطارحِ الطفولة والذكريات جاؤُوا، من جميع الـمَهاجر اللبنانية في العالَم جاؤُوا، ولاقاهُم هنا مَن ينتظرونهم بفرح، فتعانَقوا مهجةً إِلى مهجة، وتخاصَروا خصرًا إِلى خصر، وتكاتَفوا كتفًا إِلى كتف، وانْتَثَرُوا سنابلَ بهجةٍ في المدن والقرى والدساكر، وتحرَّكَت بهم، ولَو بنسَبٍ، حركةٌ اقتصادية كانوا غَذَوا دورَتها حين عمُرَت بهم مواسم الصيف الماضي في لبنان.
وها هُم من جديدٍ جاؤُوا.. للأَعياد جاؤُوا، ولاكتمال الفرح. صَدَمَتْهم مياهٌ تفلَّتت على أَرض المطار فما أَبَهوا، وصَدَمَتْهم زحمةُ سير على طرقات البلاد فما حفلوا، وصَدَمَتْهُم إِعاقات ومعوِّقات وعوائق فما اكتَرثوا، وكلُّ ما صَدَمَهُم لم يؤَثِّر في لهفتهم إِلى اللُقيا، فَهُمُ اعتادوا على عقْم السلطة وعهْر رجالها وانهيار الدولة بسبب فساد أَهلها، فإِنما حين هجُّوا من لبنان هجُّوا من السلطة الـمُسَيِّرةِ الدولة، وحين كانوا هناك وحنُّوا، حنُّوا إلى لبنان الوطن فـأَسرعوا إِليه كي يكونوا هُمُ العيد.
بلى: مواطنونا في الـمَهاجر اللبنانية وسْعَ العالم، هجُّوا من الدولة لا من الوطن. فهُمْ موقنون أَنَّ مصيبتنا هي في لبنان السلطة التي دمَّرَت الدولة، وموقنون أَن لبنان الوطن سائرٌ في الزمان لا يتأَثَّر بسلطة فاشلة ودولة عقيمة. لذا لم يأْبهوا لسلبيات الدولة فجاؤُوا في الأَعياد ينشِّطون البلد ويَنْشَطون في محبته، ولا يحفِلون لطغمة سياسيين كان معظمُهم سببًا في تهجيرهم، لذا باتوا يَلْعنونهم ويكرهونهم ويقرَفون من أَصواتهم ومنظرهم ووجوههم وتصاريحهم، ويُشيحون عنهم وينتظرون الانتخابات المقبلة كي يطردوهم من صناديق الاقتراع. فلبنانيُّونا في الـمَهاجر، وهم يعيشُون في دُوَل منظَّمة حازمة، ما عادوا يؤْمنون بسياسيين في لبنان فاسدين مراوغين ديماغوجيين لا نَفْعَ منهم وتاليًا يجب أَن يخرجوا من الحُكْم وأَن يحاكَمُوا پــيتانيًّا حين تستقيم الدولةُ برجال دولةٍ نزهاء شرفاء أَقوياء.
أَيام قليلةٌ وتنتهي العطلة، ومَن جاؤُوا للأَعياد سيعودون إِلى أَوطانهم الأُخرى التي اعتمدوها موَقَّتًا حتى يَرَوا في لبنان سلطةً قويةً تَبني دولةً قوية لا بـهؤُلاء الفاسدين الحاكمين اليوم، بل برجالٍ يعرفون أَن السلطةَ خدمة، والدولةَ مسؤولية، والوطنَ رسالة.
عندئذٍ سيعودون، بالآلاف يعودون، ونهائيًا يعودون، ليُسْهموا في دعم السُلطة برجالها الجدُد، وفي تغذية الدولة بخبراتهم، وفي إِعادة صورة الوطن بهيةً في العالَم بعدما دنَّسها وشوَّهها حكَّام فاسدون تناسلوا جيلًا بعد جيل وتوارثوا الحُكْم جيلًا عن جيل فجعلُوا الدولة والشعبَ في خدمتهم عوض أَن يكونوا هُم في خدمة الشعب والدولة.