جورج شاهين - الجمهورية
أحصت مراجع ديبلوماسية واستخبارية ما مجموعه 37 زيارة لرؤساء ومسؤولين رفيعي المستوى من حلفائها الغربيين والآسيويين لإسرائيل. وإن تقدّمهم المسؤولون الأميركيون، فقد تساوت تقريباً زيارات الفرنسيين والبريطانيين والالمان، مع تسجيل أكثر من زيارة سرّية لمسؤول خليجي. وإن بدأ بعض هؤلاء زياراتهم بتقديم الدعم، فقد تحوّلت الى مرحلة النصح لتغيير الاستراتيجية المعتمدة عسكرياً. وعليه، طُرحت الاسئلة إن جاءت المرحلة الثانية متأخّرة. ولماذا ضربت اسرائيل بها عرض الحائط؟
أجمعت تقارير ديبلوماسية واستخبارية وردت في الساعات القليلة الماضية من مصادر مختلفة، على أنّ المساعي المبذولة لوقف شلالات الدم في قطاع غزة والضفة الغربية ما زالت تترنح على وقع الرفض الاسرائيلي لسيل غير قليل من الأفكار المتعددة التي تحاكي الوضع في قطاع غزة على المديين القريب والبعيد. وعلى رغم مما فيها من نصائح أُسديت الى حكومة الحرب بالنتائج الكارثية المرتقبة، وخصوصاً تلك التي جاءتها من حلفائها، فإنّها ماضية في حربها التدميرية غير آبهة بكل التحذيرات نتيجة استخدام القوة العسكرية المفرطة والأسلحة الممنوعة دولياً، تجاه المدنيين والأحياء السكنية والقطاعات الصحية والإنسانية، من دون ان تطاول اياً من الكوادر العسكرية والأمنية والقيادات السياسية لحركة «حماس» وحليفاتها من المنظمات الفلسطينية الاخرى التي انخرطت في الحرب منذ 8 تشرين الأول الماضي، ولو بنسب متفاوتة.
وانطلاقاً مما اشارت اليه هذه التقارير من معلومات تفصيلية مذهلة، فقد عكست حجم المواجهة المفتوحة على ارض غزة والمنخرطين فيها على اكثر من مستوى، وفق تصنيف مذهل جمع الخيارات المتناقضة التي تحاكي الازمة التي لم يكن احد يتوقعها في شكلها وتوقيتها في مثل الظروف الدولية التي تواجه فيها الأحلاف الدولية الكبرى أكثر من استحقاق، اقترب بعضها من ان يكون «أزمة كونية» او «ميني حرب عالمية ثالثة» لما شكّلته من تهديد للأمن والسلام الدوليين في اكثر من منطقة في العالم، نتيجة القدرات العسكرية والاقتصادية الهائلة التي جُنّدت لها، وانعكست على مختلف أوجه الاقتصاد العالمي الذي كان قد خرج للتو من حال «الإغلاق الدولية» التي انتهت إليها وتوّجتها جائحة «كورونا» والفصل الذي قام بين القارات والدول بما لم يعرفه العالم من قبل.
وفي ضوء هذه المعادلات والمؤشرات الدولية التي تتحكّم بالمواقف، من الحرب التي اندلعت بلا اي مقدّمات في قطاع غزة وغلافها، وما عكسته من نتائج هائلة وعاجلة تسببت بها عملية «طوفان الأقصى»، والتي أُعطيت ابعاداً اقليمية ودولية كبرى لمجرد إعلان اسرائيل عن عملية «السيوف الحديدية»، واللتين زرعتا معاً الشكوك في احتمال توسّعها على اكثر من جبهة وساحة وخصوصاً بعد فتح «جبهة المساندة» التي انطلقت من جنوب لبنان، قبيل ردّات الفعل التي تسببت بها الإجراءات اليمنية في البحر الاحمر، وما يمكن ان تعكسه على أحد أهم ممرات التجارة الدولية والمخاطر المترتبة على حركة النقل البحري في العالم بعد عقود من الاستقرار التي عرفتها، نتيجة التسهيلات التي يمكن ان تفقدها الشركات الدولية العابرة للقارات برمشة عين وبين أسبوع وآخر.
وعليه، فقد صنّفت التقارير المتداولة على نطاق ضيّق الوساطات الجارية بين تلك الفاعلة التي يمكن ان تغيّر في الاستراتيجيات المعتمدة والخيارات الممكنة، لتبدّل في الوقائع وبالتالي في النتائج التي تترتب عليها في النهاية الحتمية لأي حرب في العالم. وعليه فقد سلّط احد التقارير الضوء على الدور الأميركي الذي بُنيت عليه معظم الرهانات لإنهاء الحرب وطريقة ادارتها، والتي ما زالت اسرائيل تعاندها في اكثر من اقتراح يحاكي مساعي وقف النار. فلا حلول تقليدية ومرحلية، وما بلغته العمليات العسكرية لم يعد لها أي أفق في ظلّ العجز الاسرائيلي عن تحقيق أي من الاهداف المعلنة، عدا عن الخسائر التي تكبّدها الجيش لمجرد تورطه في العملية البرية.
وفي جانب آخر من التقرير، توسّعت صفحات منه في الكشف عن مضمون مجموعة من محاضر الجلسات التي شهدتها اجتماعات «حكومة الحرب» الاسرائيلية التي شارك فيها عدد من المسؤولين الاميركيين، وآخرها الاجتماع الذي عُقد مع مسؤول الأمن القومي جاك سوليفان قبل الاجتماع المتوتر مع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، والتي شكّلت امتداداً طبيعياً لحجم الملاحظات الاميركية التي انتهت إليها لقاءات وزير الخارجية الاميركية أنتوني بلينكن مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزراء الخارجية والدفاع والأمن الإسرائيليين المتشدّدين، في بعض الخطوات التي نبّهت واشنطن من التمادي فيها، ولا سيما منها تلك التي دفعت ملايين الاميركيين والبريطانيين والفرنسيين والاوروبيين عموماً الى الشوارع، رفضاً للمجازر التي ارتُكبت في غزة والتدمير الذي لحق بالقطاعات السكنية والطبية وكذلك استهداف مراكز الأمم المتحدة، التي دفعت امينها العام أنطونيو غوتيريتش الى تسجيل مواقف عالية السقف من دون القدرة على لجمها او التخفيف مما ألحقته من تشويه لصورة اسرائيل وحلفائها.
وفي التفاصيل، اشار التقرير الى انّ ملاحظات بلينكن لم تكن تقليدية. فقد ترجم بدقّة ملاحظات الرئيس جو بايدن التي تلاقت مع لاءاته السابقة، وكانت وليدة أوسع المشاورات التي أجراها في زياراته المكوكية إلى الدوحة، حيث تجري الطبخات العسكرية والديبلوماسية على مستوى رؤساء اجهزة المخابرات الاميركية والاسرائيلية والمصرية، عدا عن لقاءاته في تل أبيب ورام الله والمناقشات الصعبة التي أجراها مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في ضوء الشروط الفلسطينية المبنية على قاعدة الوضع الفلسطيني الداخلي. وقد اقرّ بلينكن في أحد الاجتماعات انّ شروط عباس فاقت بصعوبتها شروط «حماس» في جوانب عدة منها، وخصوصاً عند مقاربة دورها المقبل في غزة بعد الحرب، بعدما أعاقت اسرائيل جهود بناء السلطة في الضفة الغربية وأمعنت في تدمير الثقة بها. كما انّ عباس في طروحاته أخذ في الاعتبار ما انتهت إليه المساعي المبذولة على مستوى «الأمناء العامين للفصائل» التي رعتها مصر وتركيا في لقاءات القاهرة وأنقرة، والتي تبخّرت بعد «طوفان الأقصى» وتراجعت الى «صفر انجاز» على الطريق الى المصالحة الفلسطينية الشاملة التي كان يحلم بها.
وفي المعلومات، انّ أهم وأكبر الخلافات الاسرائيلية - الاميركية محصورة بالوضع الذي يمكن ان ينشأ في غزة في اليوم التالي لوقف النار. فالقراءة الأميركية لمستقبل القطاع والحفاظ عليه أرضاً فلسطينية بإدارة فلسطينية رفضتها تل ابيب بإصرارها على السيطرة والادارة العسكرية والمدنية له لسنوات طويلة، مع ضرورة إنشاء المنطقة العازلة بعد سقوط الحلم بالترانسفير الفلسطيني من القطاع الى مصر.
على هذه الخلفيات، ومع احتمال التوصل الى «هدنة انسانية» جديدة لاسبوع، فإنّ المعوقات التي اصطدمت بها الجهود الاميركية قبل الفرنسية والبريطانية والاممية وغيرها ما زالت قائمة، نتيجة رفض اسرائيل كل النصائح التي أُسديت لها أياً كانت النتائج. فإسرائيل مطمئنة الى انّ ما يجري هو مجرد «فقاعات صابون» دولية، وان كان الحديث لـ «الميدان» فهي مؤمنة به قبل ان يؤكّد أهميته الامين العام لحزب الله حسن نصرالله، كما جاء في احد التقارير الذي خصّص للبحث عن العقلية التي يدير بها الحزب عمليته في مواجهة العقل الاسرائيلي، مستنتجاً «أنّ آلية التخاطب بينهما التي لا يفهمها سواهما».