نوال نصر - نداء الوطن
قبل خمسة عشر يوماً قال النائب هاغوب بقرادونيان: «في حال صدقت النوايا سيُطلق سراح الأسير اللبناني فيكين أولجكيان من السجون الأذربيجانية». عائلته تنفست الصعداء. زوجته ليندا كادت تطير فرحاً. هناك من انتظروا عودته على نار وهناك من لم يعيروا الخبر أي إهتمامٍ في بلدٍ يعتبر النسيان نعمة ويعيش النكبات المتتالية وهو ينتظر بعد وبعد ما سيُضمره الغيب من شرور. مرّ الوقت ثقيلاً في بيت أولجكيان واليوم، في صبيحة هذا الأربعاء، ضُرب موعد جديد للعائلة لتتأكد هذه المرّة ما آل إليه مصير فيكين. فهل هو موجود؟ هل هو حيٌّ يُرزق؟ إنها قصّة شاب لبناني مضى على أسره ثلاثة أعوام مات فيها في اليوم القصير عشرات المرات. فماذا في التفاصيل؟لا، لم يخرج فيكين في الموعد الذي حُدد بين اذربيجان وأرمينيا لتبادل أسرى الحرب في الخامس عشر من هذا الشهر. تبادلا الأسرى في خطوةٍ نحو تطبيع العلاقات منذ تعثر محادثات السلام بين البلدين بعد استعادة باكو منطقة آرتساخ الأرمنية، ناغورني قره باخ الأذرية، المتنازع عليها منذ ثلاثة عقود. أطلقت اللجنة الحكومية الأذربيجانية المعنية بأمور أسرى الحرب 32 جندياً أرمنياً وأطلقت أرمينيا جنديين أذربيجانيّين. وفيكين الذي كان اسمه في عداد من يفترض إطلاقه حُذف من لائحة الأسامي ودُوّن مكانه اسم آخر. هو رجاءٌ لم يتحقق. لكن زوجته ليندا ظلّت تردد: لا تفقد يا قلبي الأمل أبداً. المعجزات تسكن في الخفاء.
لكن، العائلة تتمنى علامة ما عن وجود فيكين بصحة وعافية لأن أخباره انقطعت عنها منذ مدة. فماذا حصل بالتفصيل؟ تجيب زوجته ليندا: «أعلنت أذربيجان لائحة الأسماء المنوي إطلاق سراح أصحابها وبينهم ستة مدنيين والبقية من العسكريين. واسم فيكين كان بينها. الصليب الأحمر الدولي أخبرنا ذلك. وباركوا لنا قرب إطلاق سراح فيكين. وقيل لنا أنه أبلغ أيضا بذلك. لكن، حصلت صفقة ما قبل ثلاث ساعات من إطلاق الأسرى أتت على حساب فيكين. إتصلت بولا (النائبة بولا يعقوبيان) بوزارة الخارجية في لبنان، التي إتصلت بدورها بالسفير اللبناني في إيران طالبة منه التوسط لسؤال السلطات الأذرية عن مصير فيكين. فأتى الجواب صاعقاً: سلمنا فيكين الى السلطات الأرمنية التي نفت ذلك. وهذا معناه أن فيكين فُقد. إنه مفقود. ووُعدنا من الصليب الأحمر الدولي أن يزوره صباح اليوم الأربعاء للتأكد من مكان وجوده. كلهم يكذبون علينا ونحن ننتظر».
حكاية فيكين
ليس أصعب في الحياة من الإنتظار أمام باب مغلق. فما حكاية فيكين ليدفع ثمن ما لم يقترفه؟ هو متهم بالإرهاب. إنها التهمة الأسهل. هو كان جندياً في الجيش اللبناني. ولد في لبنان وعاش في لبنان وعانى مثل جميع اللبنانيين. وقرر في العام 2018 مثل لبنانيين - أرمن كثيرين الحصول على الجنسية الأرمنية. نال ما نشد. ويوم اشتدت الأزمة في لبنان، إنتقل الى أرمينيا. وهناك، في الإقليم المتنازع عليه قدموا له أرضاً وبيتاً. ومنذ وصوله اشتدّت وطأة وباء كوفيد-19 وأقفلت المطارات. ويوم بدأت الحرب في آرتساخ طالبته القوات الأرمنية بالإلتحاق، كما كل الشباب الأرمن، للتطوع كإحتياطي في عديدها. إلتحق أربعة ايام فقط وعاد الى يريفان بعد إعلان وقف إطلاق النار.
توقفت الحرب. توقفت الأعمال العسكرية. فقرر الذهاب الى قره باخ ليجلب أغراضه وأثاث منزله. رافقته اللبنانية - الأرمنية مارال نجاريان التي أرادت هي أيضا أن تأتي بأغراضها. وقيل وقتها أنها خطيبته. لا، لم تكن خطيبته وإن كانت قد قالت ذلك في اعترافاتها «فتحت التعذيب طلبوا من مارال أن تقول أشياء كثيرة عن فيكين ليست صحيحة، بينها أنه التحق كمرتزقة بالقوات الأرمنية، لقاء 3000 دولار. إنها الشاهدة الوحيدة على تفاصيل كثيرة جرت في لحظات الإعتقال. وفي الإعتقال أدلت بأقوال غير صحيحة تحت ضغط السلاح، ويوم خرجت من الإعتقال صححت إعترافاتها أمام السفارة الارمنية في بيروت. خرجت مارال واستمرّ فيكين في أقبية الإعتقال الأذرية.
هي رحلة مليئة بالعذاب. فأين فيكين اليوم؟ تجيب ليندا: «اتصلت وزارة الخارجية اللبنانية بالقنصل الأذري في لبنان وسألته عن معلوماته عن فيكين. ونحن ننتظر. لا نعرف شيئاً. من لعب اللعبة بحق زوجي؟ لا أعرف. أكاد أفقد الأمل بعودته. فيكان راح... راح فيكان...». تردد ليندا هذا لكنها لا تلبث أن تعود لتقول: سننتظره. فيكين بريء. ننتظره منذ تشرين 2020 ولن نملّ. نريد إشارة تشي بمكانه اليوم. كلهم ينفون وجوده وآخر أمل لنا خبر يصلنا اليوم من الصليب الأحمر الدولي. وتستطرد: المشكلة أن أحداً لم يره في الفترة الأخيرة. كانت تصلنا فيديوات عنه، مدتها لا تتجاوز الخمسين ثانية، ورسائل يكتبها لنا. كان يردد وبإلحاح: ليندا ساعديني. أريد أن اخرج. أتوسل إليك لم أعد قادراً على البقاء هنا. سئلت مراراً: هل يتعرض زوجك للتعذيب؟ صدقوني لا أعرف. يبدو كمجنون. صوته تغير. وجهه تغير. والدته حين رأت وجهه في التسجيل الأخير (قبل أشهر) أصيبت بسكتة قلبية وماتت. تسلمنا منذ فترة رسالة قالوا لنا انها منه لكنه لم يكن خطه. ومرة اتصل بنا أحدهم من خط أذري قال إنه فيكين لكنه لم يكن صوته. في آخر فيديو، منذ أربعة أشهر، شاهدناه ينظر يميناً ويساراً بشكلٍ هستيري. لم يعد كما عرفناه. تغيّر كثيراً. وكأنه لم ينم منذ أيام. هو أضرب عن الطعام طوال 24 يوماً بعدما مُنع من التحدّث إليّ باللغة العربية وأنا لا أعرف اللغة الأرمنية. بدا وكأنه يعيش عذاباً لا يُحتمل». نشعر بصوتِ ليندا يتهدج حزناً لكنها تصرّ على المتابعة وكانها تريد من يسمعها. إنها تريد أن تسترجع أملا يكاد يُصبح مفقوداً.
معتقل كلبناني
إتصلت ليندا بنوابٍ لبنانيين. حكت مع هاغوب بقرادونيان فقال لها: أنا اعمل في الخفاء كي لا أعيق المسألة ويتصرف من يأسروه بنكايات. تقول ليندا: بولا يعقوبيان لم تتركنا لحظة. ووزارة الخارجية تقول إنها تتصرف.
ما رأي بولا يعقوبيان بحال ومصير فيكين؟ تجيب بامتنانٍ على الإضاءة على حالة فيكين قائلة: «هناك تعتيم كبير على حالته. أتابع على صعيد الخارجية اللبنانية التي اشكرها كثيراً وتحديداً من خلال الأمين العام السفير هاني الشميطلي الذي يتابع مع السفير الأذري في لبنان والقنصل العام. هو تحدث مراراً مع الطرف التركي لمزيد من الضغط. بالنسبة لي إتصلت بروسيا وبعثت برسالة الى ميخائيل بوغدانوف لمتابعة قضية فيكين. لم نترك أحداً إلا وراجعناه. فيكين هو اللبناني الأرمني الوحيد لكن الدولة الأذرية تتعامل معه كمرتزقة في حين أنه يملك الجنسيتين اللبنانية والأرمنية لكنهم قرروا أن يحاكموه كلبناني لا كأرمني ليقولوا إنه مرتزقة. لدي أمل بالمساعي التي يقوم بها بوغدانوف الذي أتابع معه عبر الدكتور جورج شعبان (هو اللبناني الذي منحه الرئيس فلاديمير بوتين الجنسية الروسية ويعمل على توطيد العلاقات اللبنانية الروسية). نأمل خيراً كي نصل الى نتيجة».
التحرك يتتابع لكن الحذر مطلوب كي يعود فيكين الى حريته ويبتسم مجدداً.
ماذا يقول النائب هاغوب ترزيان؟ يجيب: «نتابع الملف مع وزارة الخارجية اللبنانية ولدى السلطات الأرمنية والإغتراب والتفاوض مستمر. نحن نتعاطى مع أناس «مش فرقانة معن شي» لذلك الحذر واجب، فالملف متشعب ويربطون قضية فيكين بأمور عدّة it’s complicated لكننا لن نترك فيكين وحيدا».
رسائل فيكين
القضية معقدة. لكن صحة فيكين (إبن الـ 44 عاماً) سيئة ومصيره يبدو، بين حانا أرمينيا ومانا أذربيجان، بات مجهولاً. هذا ما تقوله زوجته ليندا. تُخرج رسائله المكتوبة باللغة الأرمنية وتشرح مضمونها: أنا بريء. أنا ميت ميت إذا بقيت هنا فلا تغفلوا قضيتي. أرجوكم، نفسيتي تعبت. إنني أنهار. لا تنسوني». نشعر برسائل فيكين مبللة بدموعه وبدموع عائلته. إنه الظلم الكبير الذي يسلب الظالم والمظلوم من حريته. وما يريح أن هناك جهنماً تنتظر هؤلاء الظالمين.
فيكين محكوم مدة عشرين عاماً في سجن باكو. وهو خسر كثيراً من وزنه. كان يزن95 كيلوغراماً فأصبح 45 كيلوغراماً. ماذا تقول وزارة الخارجية اللبنانية؟ يتحدث مصدر فيها عن استدعاء سفير لبنان في طهران حسن عباس (هو معتمد في أذربيجان لمتابعة الموضوع). وتكلمنا مراراً مع سفارتنا في تركيا. لكن الآذريين يريدون أن يستخدموا ملفه في أي تبادل أو وساطات».
أخيراً، حصل تبادل وشُطب إاسم فيكين عن اللائحة في آخر دقيقة. فهل لبنان هو الأضعف حتى في ملف فيكين؟ العائلة لا تريد ان تفقد الأمل حتى ولو بدأت تفعل. والدته ماتت فقعاً. وزوجته وأولاده ينتظرون على جمر فهذا الميلاد سيكون الثالث من دونه في جوّ فيه كثير من الريبة: هل فيكين ما زال حياً؟ هل سيصل جواب اليوم أو غداً من الصليب الأحمر الدولي عن مصيره؟ للبحث تتمة.