جوزف القصيفي
لا يحتاج المراقب الحيادي كبير جهد وعناء، ليتبين أن الافرقاء الموارنة مسؤولون- بنسب متفاوتة- عن الحال التي بلغتها الدولة التي كان لطائفتهم القدح المعلى في إعلانها تحت مسمى " دولة لبنان الكبير " في الأول من أيلول 1920. وبرغم أن هذه الدولة اعقبت رسميا نظام المتصرفية الذي عطلته الأحكام العرفية التي اعلنتها الدولة العثمانية مع بدايات الحرب الكونية الاولى، عقد لواء ادارتها لنخب سياسية من كل الطوائف، فإن هذه النخب التي حكمت بقوانين معاصرة بقياس ذلك الزمن لجهة التنظيمات العسكرية والامنية والإدارية والانمائية في إطار مركزية مشددة، لم تتمكن من بناء الدولة المنشودة وتحقيق حلم البطريرك الياس الحويك الذي سعى إلى أن يكون لبنان الكبير قائما على فكرة ثقافة الحياة الواحدة والتفاعل الارادي الحر بين مكوناته الطائفية والعمل معا من أجل تذويب المذهبية في الحال الوطنية القائمة على المصلحة المشتركة التي تجمع اللبنانيين في ما بينهم، فلا تكون الوحدة الوطنية مجرد شعار تتغرغر به الحناجر في المناسبات.
لكن شتان ما بين الحلم والواقع، والتمني والممارسة. فـ"دود الخل منه وفيه". لأنه ما مر عهد على لبنان في مرحلة الانتداب ومرحلة ما بعد الاستقلال، وفي ظل دستور العام (1926) ودستور العام (1943)، ودستور الطائف ( 1989)، إلا وكان للخلافات المارونية على السلطة يد في معاكسته والتنغيص عليه. وهناك غير مثل يمكن الارتكاز إليه للدلالة على هذا الواقع. ففي العام (1932) وعندما خشي الرئيس إميل إده من فوز منافسه الرئيس بشاره الخوري برئاسة الجمهورية خلفا للرئيس شارل دباس، بادر إلى ترشيح رئيس المجلس النيابي عهدذاك الشيخ محمد الجسر للرئاسة الأولى، وبانت بوادر مواجهة سياسية قاسية وحادة لم تنته الا عندما اصدر المفوض السامي الفرنسي بونسو قرارا في التاسع من أيار(1932) بتعليق الحياة الدستورية في الجمهورية الفتية وعهد بموجبه إلى الرئيس دباس بادارة شؤون الدولية، وحظر على المجلس أن يعقد جلسات تشريعية. وظل تعليق الحياة الدستورية ساريا إلى 21 كانون الأول من العام (1934).
النكايات والخلافات المارونية اذن ليست وليدة ساعتها، بل ترقى الى ماض سحيق. واذا أراد المؤرخ المدقق التمحيص والبحث لاستطاع أن يجد أمثلة في التاريخ الابعد، اي منذ عهد المقدمين في الشمال الماروني ، ومن ثم المشايخ في كسروان بنطاقها الجغرافي القديم الاوسع إمتدادا من نطاقها الحالي، عن عمق الخلافات وعنف الصراعات والمؤمرات التي كانت تحوكها العائلات بعضها ضد البعض آلاخر، وكذلك في بعض الأحيان الاجباب داخل كل عائلة. هذا الواقع حمل البطريرك اسطفان الدويهي على الانتقال من كرسيه في قنوبين إلى مطارح أخرى في جبل لبنان حتى استقر به المطاف في بلدة المعوش. والبطريرك الدويهي هو أحد عظماء الطائفة المارونية، ومؤرخها، وباني نهضتها الرهبانية.
ما مر يوم على الطائفة المارونية شهدت فيه استقرارا سياسيا، لأن التعددية فيها لم تكن حميدة، والانقسامات الحادة التي تسودها،غالبا ما حادت بها عن جادة التنافس الديموقراطي. حتى خانت القوى السياسية التي تتجاذبها القدرة على تنظيم الخلافات الا في ما ندر. ويوم حتم الخطر الذي طرق أبواب المناطق المسيحية، ولاسيما المارونية، أن يتحد هؤلاء سياسيا وعسكريا، فإن تثبيت ذلك حصل بعد طول مخاض، لم يخل من عنف ودم ودمع، مع خروقات واسعة أدت الى فصل الشمال المسيحي عن عمقه في جبل لبنان والعكس.
واليوم، فإن القوى السياسية المارونية اليوم تواصل حروب الالغاء من دون هوادة في حق بعضها البعض، ولو لم تتوسل العنف والمخاشنة. إنها تلجأ إلى سلاح التحالفات غير المفهومة، والتقاطعات غير المتوقعة، والقفز من ضفة إلى أخرى، وذلك على قاعدة "نكاية بجاري بحرق شروالي".
وما يلفت أن البطريركية المارونية على مدى تاريخها، كانت تسعى لجمع الموارنة، او على الاقل تنظيم خلافاتهم، ولكنها غالبا ما كانت تخفق. هذا ما بدا واضحا إبان حبرية الكاردينال مار انطونيوس بطرس خريش التي شهدت احداثا مؤسفة عمقت الشروخ داخل الطائفة. كذلك الأمر ايام حبرية الكاردينال مار نصرالله. وفي هذه الأوضاع المتشابكة والمتداخلة، فإن مساعي الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي، تصطدم بالاعتبارات، والاطباع، والاحقاد نفسها التي إصطدم بها سلفاه. ويوم وقف الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي في مواجهة الرئيس كميل شمعون مؤازرا معارضيه في العام 1958، سرعان ما جاء الرد صاخبا من أنصار الاخير في تظاهرات حادة أمام صرح بكركي: المسيحيي مشتركي / جايي تحتج/ بدها بطرك ببكركي/ ما بدا حج.
وهكذا تدور طاحونة الخلافات المارونية المنهومة، تطحن في طريقها كل محاولات جمع الشمل، ووحدة الصف، وتمعن في أضعاف قدرات الطائفة المؤسسة: السياسية، المالية، الاقتصادية، الاجتماعية، الفكرية والثقافية، مهددة بتحويلها إلى طائفة هامشية. وهي على الرغم مما حل بها،لا تزال قادرة على النهوض اذا عرف افرقاؤها كيف ينظمون خلافاتهم السياسية، ويقلعوا عن ثقافة الالغاء والاحتواء والتخوين التي لا تولد سوى الاحباط، وتعمق الحقد، وتنمي الجنوح إلى الانتقام على طريقة "علي وعلى أعدائي يا رب" الشمشونية، ولكن إذا لم يبن رب البيت،فعبثا يبني البناؤون. فلا يجدين البكاء، والشكوى، و"حلش الشعر"، لأن ما من احد أوقع بابناء مارون، اكثر مما أوقعوا هم بانفسهم. فعلى من تقرأ مزاميرك يا داود".