الاخبار عاجلة والقضايا ساخنة والقنابل موقوتة. الساحات دائما على اهبة الاستعداد للامتلاء بالمحتجين سواء على قضايا محلية او دولية، انسانية او اقتصادية او سياسية وشعوب العالم بأسره حتى في تلك البلدان التي تنعم بمعدلات نمو مرتفعة تبدو وكأنها تغلي تحت وطأة ما يجعل منها كائنات تعيش تحت عقارب الساعة.
كل ما سارت العقارب كل ما ازدادت المآزق الوجودية والمواقف المفصلية التي يجب على مجموعة من القادة اتخاذ قرار بشأنها نيابةً عن شعوبهم على الاقل ذلك كي لا نقول تفردًا، في عالم يزيد فيه التطور الى حال القدرة على الاستنساخ وتجميد الانسجة. الا أن التحكم بالأنسجة والقدرة على توليد الحياة، ولو لا تزال هذه الاخيرة بدائية، لم تتمكن من انهاء الموت والحروب الدامية التي لا تزال تتحكم بعالمنا المنهمك وراء تحقيق الارباح.
أرباح على حساب الأرواح
في عالم يغتني فيه المرء بعملية ويصبح الآخر فقيرًا بخطأٍ حسابي واحد، وتتكاثر الكفاءات والمتطلبات في خط موازٍ فيما السلطات محصورة ببعض "النواة"، ربما تكون افضل خاصية لتوصيف هذا العالم هي العبث او على الأقل اللامعنى. ونصل الى اللامعنى بمجرد تكدس الاحاديث والخطابات في القمم الدولية والاجتماعات الاممية والجلسات السرية دون تغير الواقع المرير الذي تعيشه الشعوب بأي حال. يكمن العبث برؤية الشوارع الأوروبية تكتظ بالمطالبين بوقف اطلاق النار في غزة ورؤية مواقف القادة الأوروبيين الداعمين لإسرائيل او أولئك الذين اضطروا على تبديل مواقفهم لظروف تبدو انها موقتة.
وكما تراوح المطالبات الشعبية مكانها، كذلك باتت المسائل الأخرى منها دخول الجيوش وانسحابها، وقتل الصحافيين ومجريات التحقيق بقضاياهم، وفرض العقوبات وتصنيف الجماعات والدول، الى حد الحروب ذات الأوجه الطائفية، والاثنية، والجوهر السلطوي ، والتسلطي.
ولا يقف الامر عند حدود المطالبات الشعبية غير المكترث لحالها، او وجود هيئة اممية مرهونة القرار ومسلوبة القدرة، او عند المؤشرات والإحصاءات الإنمائية والهوة الموجودة بين أغنى الدول من حيث الموارد الطبيعية وأكثرها حنكةً في استعمارها سواء باستعمال الأساليب الناعمة او الدامية. فيبدو أن الارباح تخوّل أيا كان واينما كان، في عالمنا اليوم، برسم المعايير التي يجب ان يسير العالم على اساسها، معايير ليست مزدوجة فحسب، بل مخادعة، معايير تشير الى الدرك المقلق التي وصلت اليه البشرية.
وبالنظر سريعًا الى المشهد العالمي للسنوات القليلة الماضية، يتبين لنا ان العالم الرأسمالي الذي لطالما أحدث حلوله فخرًا واعتزازًا للداعين اليه لا بل لفارضيه، قد أخفق ولا يزال يخفق في ان يرسم لنفسه على الأقل على الساحة الدولية صورة ناجحة ومبررًا واضحًا للتغني به.
قضايا عاجلة معجلة ومؤجلة
لقد اعتاد "انساننا المعاصر" على العيش بالعجلة حتى أصبح يستهلك بعجلة ويفكر بعجلة ويرى العالم على شكل قضايا عاجلة. فالسجون اللبنانية على سبيل المثال يقدمها الاعلام اللبناني للمواطن بوصفها "القنبلة الموقوتة" كذلك الوجود السوري وغيرها من القضايا التي تظهر لفترة من الزمان، لأهميتها دون أي شك، فتختفي دون أي سبب وتحل مكانها قنابل أكثر خطورةً يتم اشغال الرأي العام فيها لأغراض مرتبطة بالجذب والاستقطاب.
وإذا ما نظرنا الى الفضاء الاوسع، نرى ان العالم بأسره بات يسير على هذه الوتيرة، ففي قضايا المناخ، منظمات دولية تسعى بكل ما لديها من طاقات وقدرات لتصوير مدى "عجلة" هذه القضية التي باتت تهدد الوجود الانساني ومواقف دولية للدول الاكثر اسهامًا بالتلوث تثير العجب، ومع ذلك كله، عندما تنتهي القمة ويرحل المسؤولون وتنقضي الجلسة، يبدو وكأن القضية لم تعد بعاجلة ولا ترقى الى مستوى "الخطر الداهم" لمراوحة الامور على ما عليها. ربما لأنها قضية تحتاج الى وقت لاتمامها دون شك، وربما ايضًا لأن اللعبة الاعلامية المخصصة لها تفوق نوايا القادة على معالجتها.
وربما تكون الدعوات لوقف اطلاق النار بشكل فوري في غزة وادخال المساعدات الانسانية في ظل عدم الاكتراث واستمرار العدوان على القطاع خير دليل على أن الصفة الآنية والطارئة قد سقطت عن مفهوم العجلة، بحيث بات هذا الاخير كما كل التعابير في عالمنا المعاصر يحمل الكثير ليقول القليل ويفعل القليل.
فهل الحلول هي المستعصية او القضايا غير عاجلة واقعيًا بالقدر الممكن؟ او أن الارادة غير متوفرة بالمدى المطلوب؟ ربما هي مجموعة من الاسباب تتضافر لتجعل النتيجة المأكدة واحدة: لا الرياح تجري ولا السفن تعرف ما تشتيهه.