تحت عنوان: "في رثاء البشرية... استعراض للأبعاد السياسية والقانونية لجرائم الكيان الصهيوني في غزة"، كتب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان في صحيفة "الجمهورية":
طوال 48 يوماً من عدوان الكيان الصهيوني على غزة، خضعت المكانة القانونية والصدقية الأخلاقية لقواعد القانون الدولي الإنساني لاختبار صعب، وتحدّى كيان الاحتلال صدقية الأنظمة الدولية بلا هوادة. في مثل هذه الحالة، كيف يمكن للمجتمع الدولي أن يطالب بتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني، في حين أنّ قادة الكيان الصهيوني ينكرون جوهر الإنسان باستخدام عبارات مثل «الحيوانات البشرية»، أو يشكّكون في بشرية الإنسان الفلسطيني؟! نعم، عندما تُضَحَّى الإنسانية في مسلخ السياسة، ينبغي الحزن على الجنس البشري أولاً!
من الواضح أنّ أحداث 7 أكتوبر 2023 لم تأتِ من فراغ. فلم تزل ظاهرة الكيان الصهيوني المشؤومة تقترف الجرائم وتعمل على تثبيت احتلاله منذ عام 1948. لقد ضاع كثير من هذه الجرائم في صفحات التاريخ، وتنوسي كثير منها في غياهب السياسة المظلمة.
في هذا الخضم، ما هو مؤكّد هو الحق المشروع للشعب الفلسطيني المضطهد في مواجهة كيان الاحتلال. تعود نقطة انطلاق العدوان إلى عام 1948 وبداية الاحتلال الصهيوني. إنّه لمن الواضح أنّه لا ينبغي الوقوع في فخ المغالطات الخادعة، إذ لا يوجد في القانون الدولي شيء اسمه الدفاع ضدّ الدفاع المشروع! إنّ ما يجري في غزة هو في الحقيقة استمرار لجرائم كيان الاحتلال. وعليه، فإنّ عملية 7 أكتوبر لم تأتِ فقط من منطلق ممارسة الفلسطينيين حقهم الأصيل في تقرير المصير، بل إنّها كانت كذلك ردّ فعل مشروعاً على عقود من احتلال الكيان الصهيوني. أما استراتيجياً، فقد حطّمت العملية البطولية للمقاومة الإسلامية الهيبة الزائفة للكيان الصهيوني وأسطورة «الجيش الذي لا يُقهر»، وأغرقت هذا الكيان المصطنع في مستنقع أزمات داخلية متعددة الأبعاد.
تُعتبر اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 عصارة الجهد التاريخي الذي بذلته البشرية لتنظيم النزاعات المسلحة بطريقة إنسانية، ووفقاً للمادة الأولى المشتركة بينها، فإنّ جميع الدول ليست ملزمة فقط بالامتثال لقواعدها، بل تلتزم أيضاً بضمان احترام الآخرين لها. رغم ذلك، فقد قُتل حتى الآن أكثر من 20 ألف شخص في غزة، 70% منهم أطفال ونساء؛ كما أصيب 4 أضعاف هذا العدد. هذه الأرقام في ارتفاع مستمر كل يوم، ولا يزال المجتمع الدولي مصدوماً من الانتهاك المتكرّر للمبادئ الإنسانية.
في ظلّ هذا الوضع، قد لا يكون في المقدور الحديث عن مبدأي الضرورة والتناسبية؛ لأنّ هذين المبدأين مرتبطان بالحالات التي يوجد فيها هدف مشروع؛ في حين أنّ النزاع الدائر في غزة والضفة الغربية بفلسطين هو في الأساس حرب غير قانونية. في هذه الحالة المحدّدة، يمكن تطبيق مبدأ التفرقة بين الأماكن العسكرية والأعيان المدنية، غير أنّ هذا المبدأ كذلك قد أنتُهك بأبشع الطرق الممكنة. فأصبحت المستشفيات والمراكز الطبية، التي من المفترض أن توفّر الإغاثة للجرحى، أهدافاً رئيسية للهجمات. في الحقيقة، يتعرّض جميع سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، بمن فيهم كل طفل وامرأة ورجل في القطاع، لهجمات الاحتلال العشوائية.
اليوم يرى المجتمع العالمي فشل الآليات الدولية. إنّ الآليات التي أُنشئت على أساس النظام الذي أرساه ميثاق الأمم المتحدة تحقيقاً للسلام والأمن الدوليين، معرّضة للانهيار. كما أنّ المبادئ الإنسانية التي تمّ تنظيمها في إطار القانون الدولي الإنساني تتعرّض للانتهاك واحدة تلو الأخرى، وأنّ المسار المتقلّب الذي سلكته الأمم المتحدة على مدى أكثر من سبعين عاماً من أجل التعايش الدولي، يواجه اختباراً يتمثل في وحشية حديثة! إذا أريد توظيف الآليات الدولية مثل مسؤولية الحماية والتدخّلات الإنسانية، فإنّ الوقت المناسب لاستخدامها هو الآن!
في حالة العدوان على شعب غزة المضطهد، لا ينبغي التساؤل عمّا هي جرائم الحرب التي ارتُكبت من بين الحالات الواردة في المادة 8 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية! بل السؤال الأدق هو: أيّ من الحالات الخمسين لم تحدث بعد؟! فضلاً عن ذلك، ينبغي للمحكمة الجنائية الدولية أن تنظر في الإبادة الجماعية الهادفة، في اعتبارها جريمة تدريجية والعنصرية في اعتبارها جريمة مستمرة.
من جهة أخرى، لا ينبغي تجاهل مسؤولية الأطراف والدول الداعمة لهذا الكيان؛ حيث أنّ دعم الكيان الصهيوني هو في الحقيقة دعم للانتهاك المستمر للقواعد الآمرة في القانون الدولي. كما أنّ تصدير الأسلحة والمنع المتعمد لإقرار الهدنة والوقف الدائم لإطلاق النار في غزة، هو مثال ملحوظ لما ورد في المادة 25 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ويُعتبر إغراء على ارتكاب الإبادة الجماعية.
وفي حين أنّه بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، تلتزم الولايات المتحدة والترويكا الأوروبية بمنع حدوث الإبادة الجماعية، أصبحت هذه الدول بدورها من عناصر تسهيل ارتكاب الجريمة، أو بشكل أكثر دقة، شركاء في الجريمة، في النزاع الدائر في غزة،
إنّ التسييس واعتماد المعايير المزدوجة آفتان ابتليت بهما المنظمات الدولية. منذ عام 2015، انضمّت فلسطين إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وبالطبع فإنّ الجرائم المرتكبة على أراضيها تقع ضمن اختصاص المحكمة. كيف يقوم المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بزيارة أوكرانيا بعد 24 ساعة من اندلاع الأزمة مباشرة، ويشكّل أكبر فريق تقصّي الحقائق للتحقيق في الأبعاد المحتملة للحادثة، بينما لم يحضر في معبر رفح إلاّ بعد شهر من بدء الأحداث وتحت ضغوط الرأي العام، مع أنّه حتى هذه الزيارة لم تأتِ للتعاطف مع شعب فلسطين المظلوم، بل للتعاطف مع أهالي القتلى الصهاينة؟! كيف تقوم 34 دولة معظمها أوروبية، بطلب تدخّل طرف ثالث في القضية التي رفعتها أوكرانيا ضدّ روسيا لدى محكمة العدل الدولية، لكنها جميعاً تلتزم صمتاً مميتاً حين يقترف كيان الاحتلال الإبادة الجماعية في غزة؟ كيف تقوم الأوساط الغربية بإطلاق حملات مقاطعة وعقوبات على حالات انتهاكات لحقوق الإنسان أقل أهمية، لكنها لم تنبس ببنت شفة في شأن التهجير القسري والتطهير العرقي في حق الشعب الفلسطيني؟! كيف يمكن لمسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي أن يدّعي أنّه لا يملك اختصاصاً قانونياً لكي يعتبر جرائم الكيان الصهيوني جرائم حرب، لكنه يعلّق على النضال المشروع للشعب الفلسطيني كأنّه خبير بارع في القانون الدولي؟
كل هذه الأسئلة وأمثالها أثارت استياء الضمير الجمعي العالمي! قد نفد صبر المجتمع العالمي أمام هذه التناقضات المشينة والمقززة، واليوم قد نزل الرأي العام العالمي إلى الساحة مباشرة.
إنّ المسيرات التي خرجت وتخرج تنديداً بالكيان الصهيوني القاتل الأطفال، بمشاركة آلاف مؤلفة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة وأوروبا، هي دليل واضح على جرح المشاعر الإنسانية. لذلك، فإنّ الجرائم المرتكبة في غزة لا ينبغي أن تمرّ من دون عقاب. ولعلّ السبب الرئيسي وراء تجاسر الكيان الصهيوني خلال 48 يوماً من الهجمات والجرائم ضدّ غزة، هو إفلاته الطويل الأمد من العقاب، بفعل الدعم الشامل من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. لقد أثبت ضغط الرأي العام أنّ القضايا الدولية تمكن معالجتها في منأى عن الإرادة السياسية لرجال الدولة الغربيين. إذن، من الضروري أن تستمر المطالب الشعبية بمساءلة الكيان الصهيوني وداعميه، وأن يمتد هذا الغضب العارم حتى التأكّد من ملاحقة مسؤولي الكيان جنائياً.
في هذا السياق، أجرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مشاورات مستمرة على مختلف المستويات مع كثير من الدول، وخصوصاً الحكومات الإسلامية، في إطار سياستها المبدئية ودورها الفعّال لوقف عدوان الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني. قد كان الوقف الفوري وغير المشروط لإبادة سكان غزة وإيصال المساعدات الإنسانية بشكل عاجل من أولويات المتابعات والمشاورات في الوقت الراهن. إرسال الرئيس الإيراني رسائل إلى قادة 50 دولة، ومشاركته في قمّة منظمة التعاون الإسلامي والقمة الافتراضية لقادة «بريكس»، ومشاركتي في اجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التعاون الإسلامي، وإجراء أكثر من 50 اتصالاً هاتفياً مع وزراء خارجية مختلف دول العالم، وزيارات إقليمية إلى العراق ولبنان وسوريا وقطر وتركيا وغيرها، والمشاركة في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك واجتماع جنيف، والمطالبة بفرض حظر اقتصادي وتجاري على الكيان الصهيوني، هي من الإجراءات التي كانت على جدول أعمال الجهاز الديبلوماسي الإيراني.
لقد توقفت مؤقتاً 48 يوماً من الحرب والعدوان الجائر بفعل صمود وتضحيات الفلسطينيين ومطالب شعوب العالم بوقف الحرب. وستستمر الجهود الرامية إلى إنهاء عدوان الكيان الصهيوني وانتهاك حقوق الفلسطينيين والتمهيد لاستيفاء الشعب الفلسطيني المضطهد والقوي حقه في تقرير المصير.
إننا واثقون من أنّ المستقبل هو للشعب الفلسطيني، وأنّ كيان الاحتلال وداعميه الغربيين سيستسلمون أمام إرادة الشعب الفلسطيني الحديدية!