طوني عيسى - الجمهورية
درجَ الرئيس الراحل سليمان فرنجية على تسمية هنري كيسنجر «السيئ الذكر». فإلى كيسنجر يُنسب الكلام المتداول، قبل حرب 1975 بعامين، عن أن واشنطن مستعدة لإرسال ما يكفي من البواخر إلى لبنان، و»أخذ» مسيحييه جميعاً منه، ونقلهم إلى مكان آخر. ويقال إنّ هذه الفكرة سعى دين براون، موفد كيسنجر، إلى تسويقها بثلاث زيارات لبيروت قام بها خلال شهر واحد في بدايات حرب العام 1975، لكنه قوبل بآذان صمّاء.
لاحقاً، جرى التداول في لبنان بمواقف نُسبت إلى كيسنجر، تصبّ في الخانة التآمرية إيّاها، لكن الشكوك أحيطت بصدقيتها. وقيل إن مصدر بعضها هو مقال كتبه صحافي لبناني في تلك الفترة من نسج خياله. وقد كتبها لا بهدف التزوير، بل من باب صيغة «كيسنجر لو حكى». أي إن الموقف المنسوب إلى الرجل هو الحقيقي، ولو لم ينطق به فعلاً.
ولكن، وبعيداً عن موقف كيسنجر من الأزمة اللبنانية والأساطير التي ربما حيكت حوله، يمكن القول إن رؤيته لمجمل الشرق الأوسط والعالم العربي واضحة جداً ولا تتحمل التأويل. فالديبلوماسي الأكثر تأثيراً في تاريخ الولايات المتحدة الحديث يعرف تماماً ما يريد.
بقي كيسنجر طوال سِنيّ عمره المئة يحتفظ بلكنة ألمانية قوية، على رغم أنه عاش معظم حياته في الولايات المتحدة. وكما أن هذه اللكنة لم تغادره بعد فرار عائلته اليهودية من النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، كذلك لم يغادره مشهد الرعب الذي تعرّض له هناك، والضحايا الذين سقطوا من عائلته حينذاك بسبب انتمائهم الديني.
إذاً، في المطلق، عند دراسة المنطلقات التي ارتكز إليها فكر كيسنجر، وهو أستاذ في الفلسفة عاشق لها وللتاريخ، يُفترض الأخذ في الاعتبار تعاطفه القوي مع إسرائيل، وعلى الأقل مع فكرة أن تكون لليهود دولة مستقلة وقوية، بحيث لا يتكرر معهم في أي يوم، وفي أي ظرف، ما حدث في ألمانيا النازية.
وهذه الفكرة هي إيّاها التي يتبناها قادة إسرائيل، بدءاً بأولئك المؤسسين للدولة في العام 1948 وانتهاء ببنيامين نتنياهو وسائر الطاقم السياسي الإسرائيلي في السلطة والمعارضة. ومنذ العام 1969، عندما وصل كيسنجر إلى البيت الأبيض مستشاراً للأمن القومي إلى جانب الرئيس ريتشارد نيكسون، أظهَر أنه يعمل في العالم لتأمين مصالح الولايات المتحدة، ويعمل في الشرق الأوسط لتأمين مصالح إسرائيل.
والإشكالية هنا تكمن في السؤال الآتي: أي حدود يعتبرها كيسنجر ورفاقه كافية لضمان أمن إسرائيل وعدم تعرّض اليهود لما حدث في ألمانيا؟ هل يكفي مثلاً أن تحافظ على حدودها، ولو كانت إلى جانبها دولة فلسطينية ودول عربية أخرى، أم إن تحقيق أمن إسرائيل يستدعي منها أن تُبادر إلى بسط نفوذها على الشرق الأوسط والعالم العربي بكامله، بعد تحطيم دوله وإنهاك شعوبه، لئلّا تقوم لها قيامة وتتمكن ذات يوم من تهديد أمن إسرائيل؟
على الأرجح، كيسنجر ساهَم في زرع الفكرة الثانية داخل الإدارة والرأي العام في الولايات المتحدة. ففي رأيه أنه من الأفضل لاستمرار إسرائيل وازدهارها أن يكون العرب في حال من التشرذم والتصارع، وأن تضعف الكيانات والحكومات العربية إلى حدود الانهيار والتفسّخ لسنوات أو عشرات السنين، وخلالها يتاح الوقت لإسرائيل كي تفرض نفوذها على المنطقة كلها.
ويعتبر كيسنجر أنّ في داخل كل من الكيانات العربية أسباب تصارع وتقاتل، طائفية ومذهبية وعرقية، ويكفي إشعالها بشرارة لتستمر الحرب. وهذا الأمر ممكن بتحريض فئة على أخرى، وكيان على آخر، فيغرق الجميع وينشغلون بأنفسهم وينسون إسرائيل، بل هي تصبح أقرب إلى بعضهم من البعض العربي الآخر.
والهدف الأوّلي هو التصفية الكاملة للقضية الفلسطينية. ويتم ذلك بتشريد الفلسطينيين في العالم، لا سيما من غزة إلى سيناء، ومن الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية، ومن كل فلسطين إلى لبنان وسوريا والعراق وبلدان عربية وإسلامية أخرى، بحيث لا يبقى شهود على هذه القضية. وفي التاريخ، حدثت هذه النزوحات الكبيرة لشعوب كثيرة، فاندثرت صبغاتها الوطنية. ولطالما قيل إنّ الحرب التي غرق فيها لبنان بدءاً من العام 1975 كانت تهدف إلى تفكيك هذا الكيان إلى كيانات، وتمكين الفلسطينيين من الذوبان في واحد منها. لكن التوازنات الدولية والإقليمية بين القطبين الكبيرين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أفشلت المحاولة.
ويُجمع الباحثون على أن اللحظة التي دخل فيها كيسنجر بقوة إلى الشرق الأوسط كانت عند رعايته المفاوضات بعد حرب 6 تشرين الأول 1973. فقد خاض فيها الوساطة كداهية حقيقي، وتمكّن حينذاك من الإمساك بيد الرئيس أنور السادات وقيادة خطاه، حتى أوصَله إلى توقيع اتفاق السلام في كمب ديفيد، العام 1979. وهذا الأمر أخرجَ مصر أولاً.
ونظرة كيسنجر إلى العالم العربي، باعتباره فسيفساء من الشعوب غير المنسجمة التي يجب أن تغرق في أزماتها، تتقاطع مع نظرة جزء واسع من ذوي الرأي أو القرار في إسرائيل، كما في الولايات المتحدة. ولذلك، ثمة من يعتقد أن الصراعات العربية الداخلية مخطط لها، وبأن انفجار ما سمي «الربيع العربي» كان في هذا سياق هذا المخطط، والدليل هو أنه أشعل حروباً لم تنطفئ في العديد من الكيانات.
واليوم، وفيما يرحل كيسنجر، يغرق العالم العربي في فصول جديدة وعنيفة من المخطط الذي عمل الرجل لتنفيذه خدمة لإسرائيل. وغزة إحدى حلقاته الأساسية، وربما الضفة الغربية لاحقاً، والبقية تأتي.