أنطوان فرح - الجمهورية
الانتقادات التي يتعرّض لها مشروع موازنة العام 2024، تعود في قسمٍ كبير منها الى المناخ العام المرتبط باستمرار الانهيار الاقتصادي، وعجز الدولة منذ اربع سنوات عن إطلاق مسيرة التعافي، لإعادة الاقتصاد الى وضع طبيعي، يسمح بإقرار موازنات تتماهى مع الرؤية الاقتصادية. وبالانتظار، كل الموازنات ستكون ناقصة وغير مُجدية، في غياب التوافق على مسار التعافي العام.
من خلال الضرائب والرسوم، الجديدة منها والقديمة، التي تجري محاولة لزيادتها لتتماهى مع نسَب التضخّم التي شهدها البلد، يُلاحظ انّ الحكومة تجهد لتحسين الايرادات بأي ثمن. ورغم العورات الكثيرة الواردة في المشروع الحكومي، إلا أن الطامة الكبرى تكمن في الوضع الاقتصادي القائم، حيث بات 80 % من اللبنانيين في قائمة المحتاجين الى مساعدة، بسبب تراجع قدراتهم الشرائية الى مستويات متدنية.
في الموازاة، استعاد قسم من القطاع الخاص حيويته، بفضل عوامل عدة، من اهمها:
أولاً - الاستقرار الامني (قبل عملية 7 تشرين الأول في غزة) الذي سمح بعودة المواسم السياحية، وأدّى الى دخول العملة الصعبة الى البلد.
ثانياً - قرارات مصرف لبنان التي سمحت بإعادة القروض بالليرة او باللولار، الامر الذي سمح لقسم كبير من المؤسسات بتحقيق ارباح استثنائية غير متوقعة، ساعدتها على الصمود، وربما ازدهار بعضها.
ثالثاً - الكلفة التشغيلية التي انخفضت نسبياً عمّا كانت عليه قبل أزمة الانهيار.
هذه العوامل ساعدت القطاع الخاص على استعادة نشاطه جزئياً، الامر الذي أدّى الى وقف الانكماش الذي كان قد بدأ قبل اربع سنوات.
لكن هذا التحسّن في اداء القطاع الخاص بقي هشاً، وهو معرّض للانهيار بسرعة، بسبب عدم توفّر مقومات التوسّع والصمود. وما دام القطاع المصرفي في «صالة الانتظار»، بسبب تقاعس «الدولة» عن البدء بمعالجة الأزمة النظامية (systemic crisis) التي ضربت البلد منذ اكثر من اربع سنوات، سيبقى القطاع الخاص في غرفة العناية الفائقة، ومُعرّضاً لانتكاسات خطيرة في اية لحظة. على سبيل المثال، ما فعله اصحاب بعض المؤسسات السياحية، أنهم جمعوا الارباح التي حققوها في فترة الصيف، وهم يُنفقون منها منذ 7 تشرين لضمان صمود مؤسساتهم. هذا النمط من العمل لا يمكن ان يدوم، ولا يمكن ان يبني مؤسسات قادرة على التوسّع والمنافسة، وبالتالي لا يمكن ان يؤدّي الى اقتصاد طبيعي ومزدهر. ومن دون اقتصاد طبيعي وقادر على النمو بنسب جيدة، ستبقى الأزمة قائمة، لأنّ الدولة لن تعثر على ايرادات كافية للقيام بدورها المألوف. الاقتصاد بوضعه الحالي، لا يكفي لتحقيق استقرار اجتماعي، يمكن تأمينه من خلال نظام ضرائبي مهمته اعادة توزيع الثروة لضمان حد أدنى من العدالة الاجتماعية، وضمان مقومات البنية التحتية لتقديم الخدمات للفرد والمؤسسات والمستثمرين.
ما يقوله المنتقدون اليوم، في موضوع الموازنة صحيح، لكنه يعبّر عن فشل الدولة في صياغة وبدء مشروع الانقاذ، اكثر ممّا يعكس وجود أخطاء او شوائب في الموازنة. مَن رَسَم الخطوط العريضة للموازنة، يدرك ويعترف مسبقاً بأنّ الدولة عاجزة عن اتخاذ القرارات المطلوبة للاصلاح، لذلك لجأ الى مبدأ «اذا لم يكن ما تريد، أرِدْ ما يكون». إذ يكفي ان يتم خفض التهرّب الضريبي الذي يجري تقديره حالياً بحوالى 60%، لكي تتحسّن الايرادات العامة بنسبة لا تقل عن 25 الى 30%. لكن الدولة تعترف مسبقاً بعجزها عن تنفيذ مثل هذه القرارات الامر الذي يجعلها أدنى من مرتبة «دولة». وهذه هي المشكلة الحقيقية التي تنسحب على كل القرارات الاخرى التي لا تستطيع السلطات اتخاذها لأنها عاجزة عن تنفيذها.
في وضعٍ مماثل، لن يكون مُستغرباً تصدير مشاريع موازنة غير متّزنة، لأنّ الرؤية الاقتصادية التي نطالب بها جميعاً، لا يمكن حصرها بالموازنة، وإبقاء ما تبقّى على ما هو عليه. بمعنى، ان الموازنة قد تصلح لتكون بمثابة رؤية اقتصادية مستقلة الى حد ما، في الاوضاع الاقتصادية الطبيعية، لكن الامر يختلف بعض الشيء في وضع استثنائي كما هو في لبنان منذ اربع سنوات. الدولة تحتاج الى تحديد مسار التعافي والمضي به ضمن خطة خمسية او عشرية واضحة، ومن خلال هذه الخطة يمكن إيراد رؤية اقتصادية في الموازنة، تتماهى مع هذه الخطة. اما الاعتقاد انّ الموازنة لوحدها «بِتشيل الزير من البير»، فهو لا يقع في محله، وفيه الكثير من الاوهام او المزايدات او الشعبوية. مع الاشارة الى ان كل هذا الكلام لا يبرر صدور الموازنة بثغرات كالتي ظهرت في مشروع موازنة 2024، لكن هذه الثغرات يمكن للمجلس النيابي معالجتها، وهو يفعل حالياً، وهذا واجبه، ولكن الانقاذ والتعافي في مكان آخر لا يزال مغلقاً حتى الآن.