نقيب محرري الصحافة جوزف القصيفي
هل تخلى المسيحيون، وتحديدا الموارنة، عن صيغة "لبنان الكبير" التي عمل لها البطريرك مار الياس بطرس الحويك والتي أبصرت النور في الأول من أيلول 1920؟
هذا السؤال يطرح اليوم بقوة في ظل الدعوة إلى الفيدرالية تطلقها نخب مسيحية تحت مسميات شتى. وفي الوقت الذي يتهم فيه معارضو هذا المشروع أصحابه بالسعي إلى التقسيم، يرفض هؤلاء هذه التهمة ويؤكدون أن ما يطرحون هي صيغة اتحادية تحافظ على التنوع واستقلالية المكونات في بعض القضايا التي تتصل بمعتقداتها وعاداتها. وهذا النقاش تطور في ظل تنامي الخلافات السياسية حول موضوعات اساسية تتصل بالسياسة الخارجية وعلاقة لبنان بمحيطه الأقرب والاوسع. وتصاعد نبرة الخطاب الطائفي والمذهبي. وليس المجال متاحا للاستفاضة في الحديث عن الفيدرالية والأسباب الكامنة وراء انتعاش الدعوة إلى اعتمادها بعد طول انحسار، لأن ذلك يستغرق بحثا معقدا. لكن الثابت أن الكنيسة المارونية تقف بقوة، لا بل بانحياز إلى صيغة "لبنان الكبير" التي أطلقها احد كبار احبارها بعد مفاوضات دولية شاقة والتي انتجت دولة قائمة على التنوع، وثقافة العيش الواحد، وارادة الحياة على ارض موحدة. وهي في رأي الكنيسة، وبصرف النظر عن المخاض الذي رافق ترسيم الحدود الدولية للدولة الوليدة، والتفسيرات التي أعطيت للتقسيمات الجغرافية والادارية، تجربة انسانية فريدة في تلاقي الاديان وتفاعلها وحوارها الدائم في إطار مصالح مشتركة، متداخلة، تقوم على تقاسم المسؤولية والسلطة. وقد ثبتت هذه الصيغة على الرغم من العواصف الكبرى التي شكلت تهديدا مباشرا لها : العام 1948، 1958، 1975. وفي هذه المفاصل ارتفعت اصوات مشككة بالصيغة، وبامكان الابقاء على وحدة لبنان. وأصحاب هذه الاصوات كانت من النخب السياسية المسيحية والمارونية .لكن أحدا منها لم يكن قادرا على طرح بديل منطقي يستطيع إقناع الشريك آلاخر به. وجاء اتفاق "الطائف" الذي عدل احكاما في الدستور اللبناني ليحافظ على فلسفة البطريرك الحويك "عراب" دولة "لبنان الكبير" في التنوع والعيش الواحد، مع تغييرات تناولت السلطة الاجرائية ،لا تطاول الجوهر طالما أن المناصفة هي العاصم النظري عن الجنوح نحو طغيان عددي يفرغ التنوع المتكافيء من مضمونه.
ثمة دمج خاطئ بين لبنان وطن مسيحي ولبنان وطن للمسيحيين. لم ينص الدستور اللبناني على دين للدولة ولا على مذهب رئيسها، لكن الميثاق الوطني غير المكتوب هو من وزع السلطات على الطوائف باتفاق تاريخي رضائي. ومن الظلم بمكان نسبة فشل صيغة 1943، والتشوهات التي أصابت الفلسفة التي قامت عليها مبادرة الحويك التاريخية إلى المسيحيين،خصوصا الموارنة. حتما انهم يتحملون جزءا كبيرا من الأخطاء والخطايا المرتكبة تحت عنوان ما يسمى بـ"المارونية السياسية". إلا أن "المارونية السياسية" لم تكن الا إطارا واسعا انخرطت فيه النخبة السياسية السنية ،الشيعية، الدرزية، والمسيحية على تنوعها. اي انها كانت التعبير العملاني عن نظام سياسي ديموقراطي العنوان وتوافقي المضمون، وأن مورس بأشكال مختلفة ووتائر متعددة. مما يعني أن إدانة "المارونية السياسية" لا يمكن أن تكون إدانة للموارنة وطريقة حكمهم لبنان، لأنهم لم يستطيعوا مرة واحدة من حكمه بمفردهم، ولو شاؤوا. ولو كانت اليد العليا لهم. والوظائف الرئيسة في متناولهم، لأن الصلاحيات الواسعة التي انيطت برئيس الجمهورية قبل الطائف، كان يتعذر عليه ممارستها، كما وردت حرفيا. وفي أي مرة كان يسعى إلى ذلك كان يصطدم بممانعة رادعة.
وللتاريخ، فإن بكركي كانت دائمة الانحياز لرسالة الحويك. لم تصغ إلى دعوات التقسيم ولا الفدرلة التي صدرت عن غير جهة. البطريرك مار انطونيوس بطرس خريش واجه بصدره رشاشات ثائرين أرادوا أن يوقع على بيان يدعو إلى قيام وطن مسيحي برعاية دولية واقليمية. لم يوقع متحملا الضغط ونابي الكلام. البطريرك مار نصرالله بطرس صفير رد على هتافات جمهور غاضب: صيحي يا بكركي صيحي بدنا وطن مسيحي بأن الصرح هو مع لبنان الواحد الأحد، وأن القبيات والقاع ودير الاحمر، وزحله، وجزين والقليعة، ورميش، وعين ابل، هي عنده بمرتبة جونيه. انه الكلام الفصل. واليوم، فإن بكركي مع البطريرك مار بشاره الراعي لا تشذ عن القاعدة التاريخية التي ارساها اسلافه.
في الواقع أن ما يقلق أن ارتباط المسيحيين بارضهم ودولتهم شرع يضعف كثيرا بدءا من مغادرة مدنهم وبلداتهم النائية وممتلكاتهم ومنازلهم، إلى المدن او إلى المهاجر البعيدة. وهم ينكفئون عن الانخراط في الوظائف العامة والاسلاك العسكرية والامنية، خصوصا بعد الطائف. وعلى الرغم من النشاط التوجيهي والتوعوي الذي تقوم به بعض المؤسسات وحثها هؤلاء على عدم الاستقالة من الدولة، فإن النتائج كانت ولا تزال متواضعة. وهنا لا يمكن للمسيحيين والموارنة تحديدا إلقاء كل اللوم على آلاخرين.
وفي الخلاصة، إن الكنيسة المارونية تعتبر أن استراتيجية بقائها الفاعل على هذه الأرض تنبثق من إيمانها برسالة الحويك، وفلسفة دولة لبنان الكبير وأن على المسيحيين أن يضبطوا ايقاعهم الوطني والسياسي لينسجم مع هذا الاتجاه، لأن اي طرح آخر يعني نهاية لبنان الوطن والرسالة في آن.