نداء الوطن
محمد علي مقلد
في تسعينات القرن الماضي نشر الشيخ محمد مهدي شمس الدين كتابه «في ضرورات الأنظمة وخيارات الأمة»، دعا فيه الشعوب إلى مقاومة التطبيع لا إلى مقاومة الأنظمة. أحجم الإسلاميون عن اعتماده مرجعاً فكرياً لهم، لأنه يدين «استمرار الإدارة نفسها» الذي يؤدي إلى التمزق. هذا مطابق في مضمونه لقول منسوب إلى أينشتاين مفاده أن تكرار المقدمات والمعطيات والظروف ذاتها لا يمكن أن يؤدي إلى نتائج مغايرة.
ماذا تبدل في المواجهات العسكرية مع الكيان الصهيوني منذ تأسيسه؟ العقل ذاته والنهج ذاته. لا نملك غداة كل معركة غير إحصاء الفظاعات الوحشية للصهيونية ورجم الجبهة المعادية بأقذع الشتائم. فعلنا ذلك بعد النكبة وبعد النكسة. حتى حين كانت تلوح في الأفق بعض نقاط مضيئة كان «استمرار الإدارة» والنهج يؤدي إلى تمزيق الوحدة. الوسيلة جاهزة، لغة التخوين والتكفير.
في منطق هذه الإدارة وذاك النهج، كل حزب بالنسبة للحزب الآخر كافر وخائن. وحدها إسرائيل، يقول الشيخ، «واجهت الكل وانتصرت على كل الكفرة وعلى كل الخونة، أما نحن فما زلنا مصرين على عدم المراجعة». وكل حزب يصر على إجراء فحص دم وطني وقومي للحزب الآخر في المختبر ذاته، مختبر القرار المنفرد ودعوة الجميع إلى الموافقة والإذعان والانخراط وإلا فالويل والثبور والتخوين والتكفير وعظائم الأمور.
في المواجهات مع الجيش الإسرائيلي سيذكر التاريخ بطولات عربية كثيرة سطّرها مقاومون أفراد وجيوش في عشرات الحروب والمعارك. وسيذكر انتصاراً وحيداً يوم خرج جيش العدو ذليلاً من لبنان عام 2000. بعد عشرين عاماً على النكبة، شهدت «الإدارة» تجديداً مهماً تمثّل في ولادة المقاومة الشعبية المسلحة، التي بدأت فلسطينية وسرعان ما صادرتها واحتكرتها أنظمة وحكومات وأحزاب وتنظيمات غير فلسطينية. غير أنّ هذا الجديد أصيب بما أصيبت به «الإدارة»، ولا سيما بعد قيام دولة فلسطينية في غزة ورام الله.
استعادت المقاومة الشعبية نهج الجيوش الحكومية في محاربة الجيش الإسرائيلي واعتمدت التخوين والتكفير معياراً للعلاقة بين مكوناتها أو مع سائر القوى الصديقة والحليفة والمحايدة. إمّا أن تكون معي وتلتزم بخطي وأوامري وتكتيكي واستراتيجيتي أو أنت خائن للقضية.
استدرج قطاع غزة إلى الوقوع في هذا الفخ يوم أعلن انفصاله عن رام الله، و»حزب الله» يوم قرر منفرداً شكل المواجهة مع العدو الصهيوني، فاستعاد كل منهما لغة عسكرية مستلهمة من «مجريات معركة اليرموك ووقائعها»، التعبير للشيخ شمس الدين، لا من فنون الحرب الحديثة القائمة على العلم، حيث لا تواجه الطائرة إلا بطائرة والدبابة بغير دبابة.
ظاهرتان هما من نتائج استمرار «الإدارة» على النهج ذاته. الأولى اعتماد معيار الأنظمة في قياس الانتصار والهزيمة. يخرج منتصراً من تبقى قيادته سليمة في نهاية المعركة، حتى لو كانت الكلفة البشرية والمالية غالية جداً. نحتفل بالانتصار في حرب تشرين مع أنّ إسرائيل احتلت مساحات جديدة من الأراضي السورية، وغداً سنحتفل بانتصار غزة إذا تمكنت قيادات حماس من الصمود، حتى لو سويت المدينة بالأرض ومُسحت معالمها وتشرّد من بقي من أهلها على قيد الحياة.
الظاهرة الثانية هي مواجهة الوحشية الإسرائيلية بالتصويب خبط عشواء وبالنحيب. نتسول الدعم من المجتمع الدولي على صور الدمار أو صور الأطفال والنساء والكهول الهائمين في الطرقات أو الباحثين عن ماء وطعام وسط الحصار. نشعل النار بأعلام أميركية أو بجيران السفارة. نخوض حرباً لغوية لاستعادة اسم فلسطين على الخريطة.
نعم «المسألة مسألة مراجعة»، ولن ننتصر قبل أن نخوض بشجاعة معركة النقد الذاتي.