العميد المتقاعد د. عادل مشموشي
شهد ويشهد العالم بأسره منذ انطلاق شرارة الحرب في غزَّة تظاهرات عارمة مؤيِّدة للقضيَّة الفلسطينيَّة ومطالبة بحق الشَّعب الفلسطيني في العيش بكرامة على أرضه المغتصبة، في ظلِّ دولة مستقلَّة عاصمتها القدس الشَّرقية، ومندِّدةً بجرائم الحرب التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الأبرياء العزَّل في غزَّة وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، في ظل تأييد غربي غير مسبوق للممارسات الإسرائيليَّة الهمجيَّة، والصمت المدقع لمعظم المنظمات الدَّوليَّة المعنية وفي طليعتها هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، اللذان فقدا جدوى وجودهما لوقوفهما كشاهدي زور على محاولات إخراج الشَّعب الفلسطيني من أرضه التاريخيَّة.
دأب الكيان الإسرائيلي كعادته ومنذ اليوم الأول للحرب على ارتكاب الفَظاعات والمَجازر، والتي كان أبشعها قصفه للمستشفى المعمداني الذي كانت تعج أروقته بالجرحى ومحيطه بالشيوخ والنساء والأطفال الفلسطينيين، والذين لجؤوا إليه هربًا من لهيب الأسلحة الفوسفوريَّة المحظورة دوليًّا، وعصف القنابل المدمِّرة التي كانت تلقيها الطائرات النَّفاثة دون هوادة؛ وقد ناهز عدد ضحايا تلك المجزرة الخمسماية شهيد، تحولت أجسادهم إلى أشلاء ما حال دون التَّعرف على هويَّةُ معظمهم.
لم توقذ المجزرة البشعةُ ضمائر الحكَّام في معظم الدُّول الغربيَّة وبعض الدُّول العربيَّة، ولكن ما تضمنته مقاطع الفديو والصور المتداولة عبر وسائط التواصل الإجتماعي والفضائيَّات عن المجزرة من مشاهد مروعة ألهبت عواطف الشُّعوب قاطبة وفي طليعتها الشَّعب العربي، إذ شهد العالم من أقصاه إلى أقصاه حشودًا وتظاهرات شعبيَّة غاضبة في معظم الدُّول العربيَّة بدءًا بمدن الضفة الغربية مرورًا بالأردن ومصر وليبيا وتونس والمغرب والجزائر والكويت وموريتانيا واليمن والعراق وسوريا ولبنان، وقد رفعت فيها أعلام فلسطينية ولافتات منددة بالمجازر الإسرائيلية ومطالبات لجامعة الدول العربية ومجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة بتدخلات عاجلة لوقف حمام الدم في غزة.
لم تقتصر التَّظاهرات المندِّدة بالهمجيَّة الإسرائيليَّة على الدُّول العربيَّة إنما امتدت لتشمل دولاً غربيَّة عدَّة، ولم تثن المتظاهيرين تحذيراتُ ومواقف الحُكامِ في تلك الدُّول وما أبدوه من تَعاطف مع الكيان الغاصب، ودعمهم غير المحدود له معنويًا وماديًّا، ومسارعة بعضهم إلى إرسال تعزيزات عسكريَّة تماهيًا مع مواقفهم المنحازة. ومن أهم الدُّول الغربيَّة التي شهدت عواصمها تظاهرات مندِّدة بالهمجيَّة الإسرائيليَّة نذكر كل من: إسبانيا وإيطاليا، وألمانيا وكندا وفرنسا، وأميركا التي شهد العديد من مدنها وفي طليعتها نيويروك ودالاس وتكساس وواشطن تظاهرات شاركت فيها الجالياتُ العربيَّة وناشطون أميركيون، عبروا بها عن رفضهم لمحاولات تجويع وتهجير الشَّعب الفلسطيني، كما بالمعايير المزدوجة التي يتعامل بها العالم مع قضيته المحقَّة. وكان للتَّظاهرات التي نظَّمتها جماعاتٌ ومنظَّماتٌ يهوديَّة رمزيَّتها ومدلولاتها بحيث تعمَّدت إحداها الدُّخول إلى مبنى الكونغرس الأميركي داعية من قاعته الكبر إلى إقرار قوانين تحد من تهورات الرئيس الأميركي "بايدن"، ولتأكيد موقفها الواضحِ تجاه الممارسات اليهودية ورفضها المطلق لقيام دولة إسرائيليَّة على الأراضي الفلسطينيّة، وقد تمايزت عن باقي التَّظاهرات بالشِّعارات التي أطلقها المشاركون فيها، ونشير إلى بعض العبارات التي تضمنتها: "أوقفوا إطلاق النار الآن" لا تقتلوا باسمنا، "أوقفوا الإبادة الجماعية التي تمارس ضد الفلسطينيين"، "تحرير فلسطين من الصهاينة" و"إنهاء نظام الفصل العنصري الإسرائيلي"،... هذا بالإضافة إلى إنشادهم لأغاني تدعو لإحلال السَّلام في فلسطين ومنطقة الشرق الأوسط.
كل تلك التَّظاهراتِ الغربيَّة والعربيَّة حقَّقت أغراضها وأوصلت الرسائل التي كانت تنوي إيصالها، وحدها التَّظاهراتُ التي حصلت في لبنان جاءت نتائجها معكوسة وخيمة، فبدلًا من أن تحقق المزيد من التلاحم الوطني، وحشد المزيد من التأييد للقضيَّةِ الفلسطينية، والتنديد بالأعمال الجرمية للعدو الإسرائيلي، انحرفت التَّظاهراتُ عن أغراضها ومساراتها، وجنحت إلى أعمال عُنفٍ غير مبرَّرة بل مدانة ومنبوذة، بإقدامها على تحطيم واجهات بعض المحال التجاريَّة المجاورة لمبنى السَّفارة الأميركية في محلة عوكر وحرقِ بعضها الآخر؛ والأرذل من ذلك أن بعضًا من المتظاهرين توجهوا في طريق عودتهم إلى حرم الجامعة الأميركيَّة في بيروت، وألحقوا أضرارًا بالغة في الأملاك العامَّة والخاصة جراء تحطيط الأرصفة وشارات السير ولافتات المحال التِّجاريَّة وواجهاتها، ولم تنجو من شغبهم المطاعم والمقاهي والمؤسَّسات السياحيَّة المجاورة كستارباكس والماغدونالد وغيرهما. هذه التَّصرُّفاتُ غير المسؤولة انقلبت على المقاصد الشريفة، وبدلاً من شحذ الاستنكار للممارسات الإسرائيلية وتسليط الضوء على ما يتعرض له الشعب الفلسطيني وقضيَّته المحقة، أثارت وتثير الإشمئزاز لدى عموم اللبنانيين، وتشعرهم بنكران الجميل تجاه لبنان واللبنانيين الذين قدَّموا ويقدمون الغالي والنفيس في سبيل القضيَّة الفلسطينيَّة، وتدعوهم للنفور مجدَّدًا من الممارسات غير المسؤولة، وربما تدفعهم للمطالبة بمنع كل تلك الممارسات الاستفزازيَّة التي تسببت يومًا ما بحرب أهليَّة مدمِّرة نحن الآن بغنىً عنها.
ليس لبنان البلد الوحيد الذي تترافق فيه التَّظاهرات بأعمال شغب، كما أنها ليست المرة الأولى التي تحصل فيها مثل هذه التعديات على الأملاك العامَّة والممتلكات الخاصة في لبنان، خاصَّة وأن مركز العاصمة "بيروت" ووسطها السياحي ـ التِّجاري ومنطقة الحمراء المجاورة لها قد شهدا خلال الانتفاضة الشَّعبية في وجه الطَّبقة الحاكمة أعمال تخريب وتدمير ممنهجين، أدت إلى شلهما على الرغم من رمزيتيهما وأهميتيهما السياحية وحيويَّتيهما الاقتصادية بالنسبة إلى لبنان ككل. وهذا ما يدعونا للقلق من تلك السُّلوكيَّاتِ الخطيرة وأسبابها وأغراضها التي تتسبَّبُ في انحراف التَّحركات الشَّعبية عن مراميها السَّاميةِ، والإنزلاق في مستنقع تخريبي مدمِّر، والذي تدلُّ مؤشراته عن أنه نابعٌ عن أحقاد دفينة تجاه كل ما هو حضاري وسلمي، وكأن خلف من يحرك هؤلاء الموتورين الذين يندسون في التَّظاهرات والتَّحرّكات الشَّعبيَّة المسالمة نوايا حاقدة تضمر الشَّر للبنان وشعبه، وتعملُ وفق أجندة تَخريبيَّة.
وثمة تَساؤل آخر مشروع أيضًا يكمن في معرفة لمصلحة من يجري كل ذلك الشَّغب والتَّخريب، وما هي الجدوى من قيام أشخاص لبنانيين وغير لبنانيين يعتمرون الكوفية الفلسطينيَّة بأعمال تكسير وتخريب وتعد على الأملاك؟ علمًا أن القاصي والداني يعلم أن تلك الممارسات تنطوي على تشويه للقضيَّة الفلسطينيَّة، وتسبطُ همة المؤيدين لها وتدفعهم للإستنكاف عن مناصرتها، هذا عدا عن زرع الكراهية ما بين اللاجئين الفلسطينيين والشَّعب المضيف لهم والمدافع عن قضيَّتهم والذي قدَّم الكثير من التَّضحيات في سبيلها، وما انفك يعرِّضُ ذاته لمخاطر جسيمة في سبيلها.
نرى أن مسؤوليَّة كل ذلك يتقاسمها المسؤولون عن تلك التَّظاهرات والدَّاعون إليها، وفي طليعتهم الأحزاب اليساريَّة التي كان لها مشاركاتٌ فاعلة فيها من جهة، ومن جهة أخرى أجهزة إنفاذ القانون وفي طليعتها الأجهزة الأمنيَّة من جهةٍ أخرى، الأولى لفشلهم في تنظيم التحركات الشَّعبيَّة، وتوعية المشاركين فيها، والحرص على تنقيتها من المندسين المشبوهين، والثانيةُ لعدم اتِّخاذِ ما يلزم من إجراءات تحول دون التَّعديات، كما لقصورها عن ملاحقة الضَّالعين في أعمال التَّخريب والتكسير الحاليَّة كما السَّابقة رغم أن وجوههم واضحة، ولكون معظمهم من أصحاب السَّوابق في هذا المجال.
وتلافيًا للمزيد من الانتهاكات والتعديات والغوغائيَّة التي تشهدها التَّجمعات الشَّعبية والتَّظاهرات، ندعو إلى اجتماعٍ طارئ لمختلف الجهات المعنية في إنفاذ القانون، للتدراس في هذه المسألة الهامَّة والملحة، والخروج بتوصيات وقرارات عمليَّة فاعلة من شأن الأخذ بها للجم الإنحرافات السلوكية خلال التَّجمعات والتَظاهرات، وملاحقة جميع المتورطين فيها ومقاضاتهم أمام المراجع القضائيَّة المختصَّة، وإنزال أشد العقوبات بهم.
وأختم بالتوجه إلى مختلف القوى والأحزاب الوطنيَّة والفلسطينيَّة، بالقول: إن كنتم فعلاً حرصثن على القضيَّة الفلسطينيَّة عليكم أن تعوا أن طريق القدس لا تمر في المدن اللبنانيَّة، وحتمًا طريق غزَّة لا تمر بأحياء عوكر، ولا تحريرها يكون في التَّعدي على الأملاك العامَّة وممتلكات اللبنانيين الخاصَّة.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا