طوني عيسى - الجمهورية
ثمة عوامل عدة تدفع إسرائيل إلى التريث في تنفيذ عمليتها العسكرية في غزة، وبينها اثنان: الأول هو الضغوط التي يمارسها الأميركيون والأوروبيون القلقون من هبوب عواصف إرهابية تعصف ببلدانهم، والثاني هو قلق إسرائيل نفسها من اندلاع انتفاضة فلسطينية عارمة وعنيفة تعمّ الضفة الغربية وأراضي 1948، واشتعال جبهة الجنوب اللبناني، ما يضع إسرائيل بين فكّي كماشة: «حماس» و«حزب الله»، وبينهما فلسطينيو «الداخل».
تمتلك إيران ورقة قوة في الشرق الأوسط لا يمكن أن تتخلّى عنها، هي «وحدة الساحات» التي تعني أنّ كل القوى الحليفة لها، على بقع مختلفة، تصبح قوة واحدة في بقعة واحدة عند الحاجة. وهذه القاعدة تعمل إيران اليوم لتطبيقها في المواجهة مع إسرائيل وحلفائها الغربيين، بل ربما ترمي إلى توسيعها لتشمل ساحات أخرى ليست في الحسبان حالياً. ولذلك، يستحيل إقناع أي من القوى الحليفة لطهران بالوقوف على الحياد، إذا أطلقت إسرائيل العنان لآلتها العسكرية في غزة.
الحليف الأول المعني بهذه المواجهة، خارج القطاع، هو «حزب الله». ولذلك، تتركّز جهود الأميركيين والفرنسيين، بما لهم من «مَوْنة» في لبنان، على إقناعه بتجنّب الدخول في القتال، أياً كان مسار المعركة في غزة ونتائجها.
لكن ما تجدر الإشارة إليه هو وجود ستاتيكو في الجنوب يلتزمه الجميع منذ العام 2006 والتفاهمات الضمنية التي رافقت صدور القرار 1701.
وبموجب هذه التفاهمات يتجنّب الإسرائيليون تنفيذ ضربات جوية داخل الأراضي اللبنانية، ولو أنّهم لم يوقفوا، طوال سنوات، غاراتهم الممنهجة على أهدافٍ تابعة لإيران و»الحزب» في سوريا، بموافقة القوى الدولية كافة، بما فيها موسكو. ويعتقد الخبراء أنّ هذه التفاهمات تقضي بمنع إسرائيل من تجاوز «الخطوط الحمر» في لبنان الذي يكون مشمولاً بتغطية دولية، مقابل التزامه ضوابط الأمن على حدود إسرائيل الشمالية.
وهذه التفاهمات أبقت الجنوب اللبناني في وضعية استقرار منذ 17 عاماً، وأتاحت توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية قبل عام. وهي التي يعمل الأميركيون والفرنسيون لتثبيتها في وساطاتهم حالياً.
وقد سمعت وزيرة خارجية فرنسا كاترين كولونا من المعنيين أنّ لبنان الرسمي ملتزم هذه الضوابط وأنّه لا ينوي التورط في معركة غزة، خصوصاً أنّه لا يستطيع تحمّل عواقبها في ظروفه الحالية. وهذا الموقف عبّر عنه الرئيس نجيب ميقاتي في شكل علني منعاً لأي تأويل.
لكن الوزيرة الفرنسية تبلّغت من المسؤولين اللبنانيين أنّ القرار في هذا الشأن يعود إلى «حزب الله» في الدرجة الأولى. وهؤلاء المسؤولون لم يكشفوا جديداً. فالأميركيون والفرنسيون يدركون أنّ «الحزب» لا يتحرّك إلاّ بالتنسيق الوثيق مع طهران. ولذلك، يبدو عبثياً الرهان على إقناعه بتجنّب الدخول في الحرب من دون التفاهم مع إيران أيضاً. وهذا يعني أنّ محادثات الرئيس الأميركي جو بايدن وأركان الديبلوماسية الغربية في الشرق الأوسط لن تؤتي ثمارها ما لم تشمل إيران، المعنية بإدارة المعركة، من «حماس» في غزة إلى «حزب الله» في لبنان إلى سواهما في الشرق الأوسط والعالم.
منطقياً، لن تضحّي إيران بـ«حماس» أياً كان الثمن ومهما تقلّبت الظروف. وهي ستعمد عند الحاجة إلى إنزال «حزب الله» إلى الساحة لنجدتها، كما ستستخدم كل الأوراق الأخرى المتاحة لها.
لكن إيران تفضّل اليوم إنهاء المواجهة في غزة، بحدّ أدنى من المغامرات، وبما يحفظ لـ«حماس» ما حققته من مكاسب حتى الآن، ويمنع تعرّضها لضربة عسكرية قاسية، وربما تكون قاتلة في المدى البعيد.
وطبعاً، تفضّل إيران عدم معاكسة البيئات اللبنانية كافة، بما فيها البيئة الشيعية، في رغبتها تجنيب لبنان عملية تدمير شبيهة بتلك التي جرت في حرب 2006 أو تفوقها شراسة.
واليوم، تتمتع إيران بموقع مميز في لبنان. فهي تمسك بزمام القرار الرسمي من خلال حلفائها، وهي باتت تُبرم الاتفاقات مع الدول باسم لبنان. ولذلك، لا مصلحة لها في أي مغامرة إسرائيلية قد تؤدي إلى تدمير هذا البلد، المُدمّر أساساً، بحيث تصبح السلطة التي تمسك إيران بقرارها قائمة على خراب، فتسقط هي أيضاً.
إذاً، أولوية طهران هي إنهاء الفصل الحالي من المواجهة في غزة، من دون خسارة سياسية، ومن دون الحاجة إلى استخدام الورقة اللبنانية. وهي تدرك أنّ خسارة «حماس» في غزة تعني إضعاف كل حلفائها في المنطقة، وهذا ما لا يمكن أن توافق عليه، ولو دفعها إلى فتح جبهات جديدة.
لكن إسرائيل في المقابل ترفض طي الصفحة إلاّ بمخرج يعيد إليها المبادرة في غزة. بل هي تفكر في استثمار اللحظة للذهاب بعيداً وتسويق مخططها القاضي بإجراء تبادل ديموغرافي بين غزة وسيناء وصحراء النقب.
وعلى الأرجح، مصلحة طهران اليوم، واقعياً، تكمن في دخولها المباشر إلى نادي الأقوياء الذين سيقرّرون مصير غزة ومستقبل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. وهذا ما يمكن أن يمنحها أولاً القدرة على المناورة وحماية حليفتها الفلسطينية من أي ضربة عسكرية، وثانياً امتياز الإمساك بجزء مهم من مستقبل القضية الفلسطينية، برمزيتيها العربية والإسلامية، على غرار المملكة العربية السعودية والأردن.
ولذلك، تعتمد إيران اليوم سياسة العصا والجزرة. فهي توحي من خلال «حزب الله» أنّها مستعدة لفتح الجبهة في الجنوب اللبناني على مصراعيها، والذهاب بعيداً في التحدّي، إذا أطلق الإسرائيليون مغامرتهم في غزة. وبالفعل، فإنّ «حزب الله» أبقى جبهة الجنوب «نصف مشتعلة»، تدليلاً على أنّه يستطيع ترجيح الأمور في الاتجاه الذي يريده، وفقاً للحاجة. وهذه «الجرعة» من التحدّي يعتبرها «الحزب» وإيران كافية لإيصال الرسالة المطلوبة إلى الذين يعنيهم الأمر.
واللافت أنّ «الحزب» يخوض حرباً دعائية شرسة يريد من خلالها إثبات أنّ غرفة عمليات واحدة تدير المعركة في غزة كما في الجنوب اللبناني، ما يعني أن لا مجال لفك الترابط بين الساحتين. ولكن، في الحروب، كثيراً ما يهدف رفع السقف السياسي والإعلامي إلى تجنّب التصعيد في الميدان العسكري قدر الإمكان.
فالإيرانيون براغماتيون جداً ولا يمارسون السياسة بانفعال. لكن التجارب في الشرق الأوسط أظهرت أنّ الأبواب تبقى مفتوحة دائماً للمفاجآت.