كارين عبد النور - نداء الوطن
التاسع من تشرين الثاني بات أقرب من أي وقت مضى. نقيب يهمّ بالمغادرة، والشعلة تنتظر من يحملها. قبل المغادرة وفي الإنتظار، إحتفالات ومؤتمرات وتكريمات، و»عزايِم» ترشّحية تُطلَق من على موائدها البرامج وتُناقَش الحملات. توازياً، هناك محامون كثرٌ يقفلون أبواب مكاتبهم، و»يلي مضايِن» خائف على مستقبله. أما المتقاعدون منهم، فمنسيّون يُمشّون الحال بالتي هي أحسن. بخمسين دولاراً شهرياً، تحديداً.
«عهد الإنجازات في ظل الأزمات». هكذا كرّمت لجنة النشرة والإعلام في نقابة المحامين في بيروت النقيب ناضر كسبار ونخبة من الإعلاميين. التكريم غاب عنه عدد كبير من المحامين. ولن نغوص في ما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من احتفالات ومناسبات شخصية وغير شخصية، ومن ولائم على شرف مرشّحين أو استمالةً لناخبين. قد يكون النقيب الحالي أوّل نقيب يُكرَّم قبل نهاية ولايته. وهي ربّما، كما يسرّ مراقبون، من أكثر العهود التي تشهد فيها النقابة ما شهدته من خلافات واعتراضات وقرارات تعسّفية بحق البعض. لكن، بغضّ النظر، تركيز الموالين والمعارضين يبقى منصبّاً حالياً على الانتخابات.
صورة النقابة مختلفة
البداية مع عضو مجلس النقابة السابق، فادي حداد، الذي وصف في حديث لـ»نداء الوطن» قرار ترشّحه بالطبيعي والمنطقي وذلك بعد انتخابه عضواً في مجلس النقابة لولايتين، تولّى خلالهما عدّة مهام ومسؤوليات نقابية منها عضوية ورئاسة المجلس التأديبي. كما كان مقرّراً لجدول التدرّج وفي قضايا الجدول العام، إضافة إلى انتخابه عضواً في المحكمة النقابية. حداد أشار إلى أن «التيار الوطني الحرّ» تبنّى ترشيحه انطلاقاً من مسيرته النقابية التي تلقى تقديراً من زملائه. فكيف ينظر إلى التعديل الذي أُدخل على نظام آداب المهنة بما يخصّ الظهور الإعلامي؟ «أعتبر أننا لسنا في حالة فراغ تنظيمي بهذا الخصوص، وموضوع الحريات بحاجة إلى مزيد من التروّي في مقاربته، مع العلم أن بإمكان المجلس الذي أصدره إعادة النظر فيه في كل حين»، كما يجيب.
غياب مرشحّي «التيار» عن المجلس النقابي خلال السنتين الماضيتين كان واضحاً، خصوصاً بعد انسحاب مرشّحه في اللحظة الأخيرة في انتخابات العام 2019. في هذا الإطار، اعتبر حداد أن أحزاباً كثيرة، وليس «التيار» فحسب، انكفأت عن ترشيح منتسبين إليها في السنوات الماضية، وأن «التيار» لا يتمسّك بترشيح محازبين دون سواهم بقدر ما يدعم مرشّحين مستقلّين انطلاقاً من صدقيتهم وأدائهم ومشروعهم الانتخابي. وعن سؤال حول عدم تكافؤ الفرص بين المرشّحين من الأعضاء الحاليين في مجلس النقابة وبين الأعضاء السابقين ممّن تقدّموا بترشّحهم، لفت حداد إلى أن النصّ يسمح لأعضاء المجلس بالترشّح ضمن شروط محدّدة، لكنّ العبرة تكمن في عدم صرف النفوذ واستعمال الموقع لغايات انتخابية في الملفات النقابية والأمور الصحية.
وعن برنامجه الانتخابي، رأى حداد أن زملاءه عايشوا نشاطه النقابي ومدى تمسّكه بتطبيق القانون والنظام، مضيفاً: «أعلم أن المهمة ليست سهلة بعدما انعكست الأزمات المتتالية مباشرة على أوضاع المحامين، بدءاً بالتدرّج مروراً بالمحامين العاملين وصولاً إلى المتقاعدين. دون إغفال ضرورة العمل على تطوير جهاز النقابة الإداري مركزياً وفي المناطق تسهيلاً لعمل المحامين، كما السعي لتأمين حسن سير العدالة عبر مواكبة عمل الجسم القضائي والتصدّي لأي مساس بالثوابت الوطنية. وها أنا أتعهّد أن أكون في خدمة النقابة والمحامين الذين أشاركهم همومهم ومطالبهم». ختاماً حول رأيه بمظاهر الموائد والاحتفالات الانتخابية المكلفة، لفت إلى أنه ليس من عادات المحامين التنافس على هذا المستوى وأن هناك تشويهاً لشخصية المحامي ومحاولة رسم صورة مختلفة عن النقابة. من هنا بات لزاماً اقتراح عناوين وآليات لضبط عملية الترشّح وكيفية الإعلان عنها وطريقة إجراء اللقاءات وتقييدها بأصول راقية تليق بمكانة المحامي وتؤكّد ريادته في إدارة العمليات الانتخابية.
أنقِذوا المتقاعدين
بالحديث عن صُوَر الموائد والاحتفالات الانتخابية في وقت لم تتمكّن النقابة حتى الساعة من إيجاد حلّ لتحسين الراتب التقاعدي، تواصلت «نداء الوطن» مع النقيب السابق والعضو الحكمي في مجلس النقابة والصندوق التقاعدي، بطرس ضومط. مستغرباً هذه الظاهرة التي لم يشهد لها مثيلاً (وبهذا الحجم) من قبل، أكّد «أننا بحاجة إلى شرعة أو مدوّنة ترعى سلوكية الحملة الانتخابية وتقوم على تكافؤ الفرص، بحيث تُحصر لقاءات المرشّحين مع المحامين الناخبين لعرض أفكارهم ومناقشة برامجهم الانتخابية في دُور النقابة ومكاتب المحامين أو في منازلهم، وقد تكون أيضاً في صالات عامة على فنجان قهوة أو ما شابه ولكن ليس في المطاعم وعلى موائد الطعام. عندها يمكن الحديث عن انتخابات صحيحة وحملة انتخابية تتميّز بالرقيّ والاحترام».
ماذا عن المتقاعدين؟ بحسب ضومط، النقابة ليست نادياً أو حركة ثقافية بل لها دور مهني ووطني في رعاية مصالح المحامين وإيجاد بيئة سليمة لممارسة مهنتهم والحفاظ على كرامتهم، كما توفير الحدّ الأدنى من مقوّمات الحياة الكريمة للمحامي المتقاعد وعائلته وتحسين مرتّبه التقاعدي. «المتقاعد متروك اليوم لمصيره، يتقاضى 50 دولاراً شهرياً، بعد أن بلغ راتبه الألف. كل ذلك والنقابة تَصرُف مبالغ طائلة على ندوات ومؤتمرات لا جدوى من معظمها. وهي تُنفق كذلك عشرات آلاف الدولارات بدل محروقات في بيت المحامي الذي شُرّعت أبوابه وقاعاته لكافة الجمعيات المموَّلة من الداخل أو الخارج. فحريّ بالنقابة توفير هذه المبالغ وتحويلها إلى صندوق تقاعد المحامين»، كما يقول. وإذ شدّد على أن الحلّ يكمن في زيادة الرسم السنوي حيث لا يمكن للمحامي الاستفادة من تقديمات تخصّه دون المساهمة في تغطية جزء منها، ذكّر في هذا السياق: «في العام 2006، حين كنت نقيباً، كان صندوق التقاعد آيلاً للوقوع في عجز بعد عام تقريباً. حينها تقدّمت باقتراح زيادة المرتّب التقاعدي من خلال زيادة الرسم السنوي. وبعد لقاءات جمعتني بكافة المحامين عرضت أمامهم خلالها الوقائع بكل شفافية، تمّت الموافقة على الاقتراح بشبه إجماع. فالمحامي بحاجة لشرح الوقائع والأسباب الموجبة».
ضومط تمنّى أن تكون أولويات النقيب المنتخَب رعاية مصالح المحامين عبر استعادة الثقة بالعدالة. إضافة إلى تطبيق قانون تنظيم المهنة والأنظمة ومراعاة الأعراف والتقاليد، إذ حين يطبّق المسؤول القانون على نفسه يسهل عليه تطبيقه على الآخرين، دون إغفال ضرورة إعادة فتح أبواب العدلية. العمل النقابي لا ينتهي مع انتهاء أي ولاية، كما اعتبر، لا بل هو استمرارية لنقابة قوية مصانة الهيبة. وناشد المحامين لاختيار الأنسب من بين المرشّحين الذين رأى فيهم جميعاً الكفاءة، بعيداً عن التدخّلات السياسية والحزبية والمناطقية. ودعا ختاماً إلى دعم النقباء السابقين للنقيب المنتخَب أياً يكن: «نريد قائداً يُمتحن في زمن الأزمات ويجترح الحلول المناسبة ويحاكي العقول ويتّصف بالجدية والرصانة والاتّزان. نقابتنا، بها نقوى وبنا تقوى».
بين الأمس واليوم
بعيداً عن حماوة المعركة الانتخابية، عودة إلى الزمن الجميل. نسمع من المحامية مايا شهاب، العضو الرديف الذي يدخل المجلس النقابي فور استقالة أحد أعضائه المرشّحين على مركز النقيب، عن الفترة التي عايشتها مع والدها النقيب الراحل محمد شهاب. الأخير شغل مناصب نقابية عدّة وعُرف بمناقبيّته ووطنيّته وتضحياته. انتُخب عضواً في العام 1974 وأعيد انتخابه في العام 1981 حيث عُيّن أمين سر مجلس النقابة. كذلك تولّى مهام النقيب بدلاً من النقيب عصام الخوري بعد تعيينه وزيراً، وأعيد انتخابه في الأعوام 1982 و1992 و2000. تخبرنا شهاب أنها رافقت والدها في انتخاباته النقابية، لا سيّما آخرها، حيث لاحظت وقتها أن عدد المحامين لم يكن يتجاوز الألفين. «يجتمعون في قاعة الخطى الضائعة في قصر العدل في بيروت، يستمعون إلى بيان النقيب، يناقشون ميزانية وحسابات النقابة ومن ثمّ يتّجه كل منهم إلى صندوق الاقتراع للإدلاء بصوته ورقياً. كل ذلك ضمن جوّ عائلي، فالكلّ يعرف الكل».
ما الذي تغيّر اليوم؟ «إنه وضع القضاء بشكل عام. وقد انتسب إلى النقابة جيل جديد من المحامين بأعداد هائلة فتعذّرت عليهم اللقاءات والاجتماعات والتواصل. وما زاد الطين بلّة إقفال المحاكم واعتكاف القضاء. كما التحق كثيرون من المحامين بأحزاب وحركات وتيارات لم تكن فاعلة في زمن والدي، وحلّت وسائل التواصل مكان اللقاءات الشخصية. يومها كانت أحوال المحامين بخير، أما اليوم فكل شيء تبدَّل مع تبدُّل الأوضاع العامة في البلد». وتتابع شهاب بأن حتى وجه النقابة تغيّر. فقد طغى جيل الشباب وتبدّلت طرق التواصل والتعاطي وساد الانفلاش على حساب تحفّظ المحامين في علاقاتهم البينيّة. لكن رغم ذلك بقي المحامون متراصّين في نقابتهم الواحدة، وهذا ما يؤسّس لمستقبل شبابي واعد، على أمل أن تتغيّر الظروف وتعود النقابة إلى سابق عهدها المزهر والرائد في الوطنية، بحسب رأيها.
نسألها عن واقع المتقاعدين، فتصفه بالمأسوي مع راتب لا يكفي لسدّ حاجاتهم الأساسية. «من هنا ضرورة إيجاد حل، وقد سبق وعُرض على مجلس النقابة أن يعمد إلى التأمين الاختياري على الراتب التقاعدي، لكن العرض لم يبصر النور، رغم أنه معتمَد في العديد من النقابات في الخارج وقد يكون من المفيد إعادة النظر فيه». ورغم ضرورة اجتماع المرشّحين بالناخبين لإطلاعهم على برامجهم الانتخابية، إلّا أن شهاب أسفت لوصول مظاهر البذخ التي تطبع بعض الحملات حدّ خلق حالة من الاشمئزاز لدى المحامين العاملين والمتقاعدين - المُنهكة كرامتهم وحقّهم في عيش كريم - على السواء.
ختاماً، شهادة شخصية من شهاب طبعت معالمها مسيرة ربع قرنٍ من عمل الوالد النقابي في محامية اليوم. منه تعلّمت الإخلاص والتفاني في سبيل النقابة والمحامين. هو الذي كان يقدّم المشورة لأمناء السر الذين تعاقبوا من بعده، ولم ينقطع عن استقبال المحامين في مكتبه والاستماع إلى مشاكلهم ومحاولة إيجاد حلول لها. «تعلّمت منه الوفاء للمهنة والوطن بعيداً عن زواريب السياسة وآفات الطائفية، ذلك أنه لم يكترث يوماً لمختلف انتماءات المحامين. والأهم أنني تعلّمت احترام حفظ الأسرار وأن المحاماة منبع للتواضع لا للتسلّط، وأن المنصب مسؤولية لا تشريفات».
المحامون بمعظمهم يراقبون الحاضر، يسترقون النظر إلى الماضي ويصبون إلى مستقبل أفضل. وكلّهم أملٌ في أن تثبت «الإنجازات» النقابية، حالياً ومستقبلاً، أنها أهلٌ بالفعل للحفاوة والتكريم.