طوني عيسى - الجمهورية
قبل أيام، فوجئ القريبون من شخصية بارزة، غائبة حالياً عن المشهد السياسي، بإطلاقها توقّعات صادمة إزاء المرحلة المقبلة في لبنان. وقد عكف هؤلاء على محاولة تبيان: هل إنّ هذه التوقعات هي نتيجة معلومات مستقاة من مصادر دولية وإقليمية ذات إلمام بحيثيات الملف اللبناني، أم إنّها مجرد قراءة سياسية خاصة أجرتها هذه الشخصية؟
في لقاء مع بعض المقرّبين، رسمت هذه الشخصية السياسية سيناريو خاصاً بالوضع اللبناني في الأشهر بل السنوات المقبلة.
تقول: «المساعي منصبّة اليوم على إنتاج تسوية سياسية، بدعم إقليمي ودولي، وهذه التسوية يتقاطع عليها كثير من القوى. وعلى الأرجح، هي ستؤدي إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في غضون أيلول الجاري أو تشرين الأول المقبل».
إلاّ أنّ هذه التسوية، في تقدير الشخصية السياسية، لن تتكفّل بإنقاذ الوضع اللبناني من الانهيار الذي تعمّق على مدى السنوات الأربع الأخيرة، لأنّ مستلزمات النهوض ليست متوافرة ولا مجال لكي تتوافر. كما أنّ القوى الخارجية الكبرى المعنية بالملف اللبناني ليست على استعداد لدعم السلطة القائمة حالياً بما يكفل لها النهوض واستعادة «ستاتيكو» الحكم الذي كان قائماً قبل بدء الانهيار في تشرين الأول 2019. فما يهمّ هذه القوى هو عدم انفجار لبنان أمنياً، بحيث يشكّل بؤرة تهديد إضافية في الشرق الأوسط.
ولذلك، سيؤدي انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، في ظل المعطيات الحالية، إلى تكريس الواقع القائم. وفي عبارة أخرى، ستتمّ إدارة وضعية الانهيار وعملية التفكّك المتسارعة لمؤسسات السلطة المركزية. وتقول الشخصية نفسها، إنّ هذه المعطيات ستجعل الرئيس المقبل راعياً لهذه الوضعية، أي إنّ عهد السنوات الست سيشهد واقعياً تكريس نتائج التفكّك.
وبناءً على التسوية السياسية المنتظرة، ستنخرط الأطراف الداخلية في مفاوضات تهدف إلى إنتاج صيغة جديدة للحكم في لبنان. وهي ستطرح صيغاً جديدة مختلفة للبنان المستقبل، تراوح بين حدّين متطرّفين: النظام المركزي القاسي القائم حالياً، في مقابل الفدرالية، أي اللامركزية الإدارية والسياسية والمالية الموسّعة التي تتزايد المطالبة باعتمادها. وبين هذين الطرحين، سيتمسّك البعض باللامركزية الإدارية التي نصّ عليها اتفاق الطائف، علماً أنّ لكل طرف قراءته وفهمه للطائف وهو يفسّر اللامركزية وفقاً لما تقتضيه مصلحته.
المتوقع، تقول هذه الشخصية السياسية، هو أن تفشل المفاوضات التي سيحاول البعض تنظيمها للبحث في مستقبل النظام المركزي في لبنان. وهذا الفشل سيقود حتماً إلى تكريس الوضعية الحالية، فتعمد كل طائفة إلى الإمساك بزمام أمورها بنفسها، بمقدار ما يتاح لها ذلك. وهذا ما يعني تكريس الوقائع الحالية واتجاهات التشرذم التي يشهدها الواقع اللبناني في شكل متنامٍ منذ سنوات.
يعني ذلك عملانياً، في رأي هذه الشخصية، أنّ رئيس الجمهورية المقبل سينشغل خلال عهده في إدارة الاختلاف، بل إدارة الافتراق، بين المكونات اللبنانية.
تقول هذه الشخصية: «على الأرجح ستتمّ الاستجابة إلى بعض الطروحات التي أطلقها المسيحيون، خصوصاً في الآونة الأخيرة، بتقاطع أميركي - فرنسي مع إيران. ووفقاً لذلك، سيُتاح للقوى الشيعية التي هي اليوم في ذروة قوتها، أن تشدّد قبضتها في المناطق ذات الغالبية الشيعية، والواقعة اليوم تحت نفوذها المباشر. وفي الموازاة، سيتمكّن المسيحيون من الاحتفاظ بهامش من الخصوصية في المناطق التي هم فيها غالبية سكانية، فيما سيكون «الشمال السنّي» هو المنطقة التي يستطيع فيها السنّة الاحتفاظ بهامش في رعاية شؤونهم. وسيكون الترابط بين المناطق الطائفية ضعيفاً جداً، ما يسمح بالقول إنّ رئيس الجمهورية سيرعى عملية «إدارة الافتراق» الهادئ بين الجماعات الطوائفية».
لم تكشف هذه الشخصية السياسية طبيعة المعلومات أو الاستنتاجات التي تملكها، ولكن من الواضح أنّها تترافق والتطورات الجارية في سوريا والعراق واليمن، حيث تتفكّك المؤسسات وتفشل التسويات السياسية وتتسارع الانهيارات الاقتصادية، مثيرة المخاوف من فشل العلاقة بين المجموعات الطوائفية في داخل كل كيان سياسي.
في الأروقة والمحافل الدولية والإقليمية، يتردّد اليوم كلام كثير على التغيير في لبنان، لكنه ليس الأول من نوعه. فقد قيل كلام كثير مشابه على مدى سنوات أو عقود، لكن أي تغيير لم يقع فعلاً في كيانات الشرق الأوسط كلها. وكان البديل من التغيير هو الحروب الأهلية والنزاعات الطائفية الدائرة في هذه الكيانات، والتي لا تظهر لها نهاية. ويوحي هذا الواقع أنّ الأقوياء في الكيانات الشرق أوسطية يعتقدون دائماً أنّهم بالحروب يحقّقون أفضل المكاسب لا بالجلوس إلى طاولة نقاش حول المستقبل وطريقة صنع السلام الحقيقي.
قد يكون لبنان مقبلاً على السيناريو الذي تتحدث عنه هذه الشخصية السياسية، وقد لا يكون. ولكن، لا شيء يضمن حتى الآن أنّ البلد يستعد لصناعة استقراره المستدام.