النقيب السابق لمحامي الشمال، الوزير السابق رشيد درباس
أدق ناقوس هذا الأحد، فرحاً بعيد حفيدي الأول الفضل علي شلق الذي أبصر النور منذ أربعة عشر فقذف في صدري نوراً ووسمني جَدّاً متجدد الحيوية به وبالأربعة الأخر.
كما في مثل هذا اليوم، منذ ثلاثة عشر عاماً أتت إلى الدنيا لين سامر قدورة الحفيدة الأولى لشقيقي خالد، وها هما الآن شاب وصبية، لكنهما في أنظارنا لم يزدا عن أمس إلا إصبعا.. كما قال شوقي في قصيدة جبل التوباد:
لم تزل ليلى بعيني طفلة
لم تزد عن أمس إلا أصبعا
علمت من أصدائكم أنكم استسغتم حالة "التسرب المدرسي" التي أستعيد ذكرياتها معكم، كما استحسنتم الفرار من الاستنقاع السياسي الراهن والتملّص ولو لمساحة هذه الدقائق من طنين الذباب ولسع الهوام، ولدغ الحشرات السامة.
كنت أظن أن قلق المسؤولية يولّد أعلى درجات الكآبة خصوصاً عندما تكون الامكانات محدودة ويكون المناخ موبوءاً، وتوهّمت أنّ انتهاء مهمّة حكومة الرئيس سلام، سيدخلني إلى تمام السلام النفسي، وذلك بانتقالي إلى الجلوس في مقاعد الفرجة بدلاً من المعاناة المستدامة فوق خشبة المسرح.
لكن التدحرج المتمادي أسقط الحائط الرابع فاختلط الجمهور بالممثلين، ومعظمهم ممّن لم يتقنوا هذا الفن، وممن غشّوا نفسهم وراحوا يوزّعون علينا قلة خبرتهم بلهجة خِطابية معجونة بالمغالطات والأرقام الملفّقة؛ أما الذروة فكانت في ليلة السادس من السادس، حيث كاد سبي السيدة زينب وسب السيدة عائشة أن يوديا بنا إلى حفرة دموية لا قرار لها، مع ما خلّفته استعادة ذكريات الشياح – عين الرمانة، وشارع أسعد الأسعد والمراية، من رعب تلك الأيام ووحشيتها.
ذكّرتني حالتنا هذه بقول أبي الطيّب :
طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَرٌ
فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَذِبِ
وتملّكتني حالة إنكار، ففزعت إلى النكوص، والتوغل في التراث الجميل، والفن الراقي، إنجازاً لما وعدتكم به لأحدثكم عن علاقة أمير الشعراء أحمد شوقي بالسيدة أم كلثوم، ولقد فوجئت بالروائي المصري عصام يوسف يقول على شاشة "القاهرة والناس"، أنّ كوكب الشرق لم تغنِّ لشوقي إلا بعد وفاته إذ كانت تتهمه بمحاباة عبد الوهاب، علماً أن كليهما قد غنى، بلحنين مختلفين قصيدته الجميلة:
مقادير من جفنيك حوّلن حاليا
فَذُقت الهوى من بعد ما كنت خاليا
وما الحب إلا طاعة وتجاوزٌ
وإن أكثروا أوصافه والمعانيا
وعندي الهوى موصفه لا صفاته
إذا سالوني ما الهوى قلت مابيا
يروى أن مجلساً ضم الأمير والست، فقدّم لها كاساً من الطلا أي الخمر، رفضت تناولها لأنها لا تعاقر بنت الحان، فلما أصرّ، أدنت الكاس من شفتيها ثم أعادتها إليه؛ في اليوم التالي أرسل لها ظرفاً مختوماً لم تفتحه، ولكن بعد وفاته ، قرأت الرسالة فإذ هي قصيدة رائعة من وحي ذلك المجلس يتساءل فيها إذا لمس الخمر شفتيها:
سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها
واستخبروا الراح هل مست ثناياها
باتت على الروض تسقيه بصـافــيـةٍ
لا لــلـسـلاف ولا لــلــــورد ريـــاهـــا
إلى أن يقول:
حمامة الأيك من بالـشــجـو طـارحـها
ومن وراء الدجى بالشوق نـــاجـاهــا
حديثها السحر إلا أنه نغم
جرت على فم داوودِ فغناها
ونغم جمع نغمة ولهذا أنثها
ثم يختم :
ياجارة الأيك أيام الــــــهـوي ذهـبــت
كالحلم آهــــــــــــا لأيام الهــوى آهــا
ما إن فَرغَت من قراءة القصيدة حتى استدعت الموسيقار الخالد رياض السنباطي، فكانت تلك الأغنية الرائعة التي لم يسمعها شاعرها كما لم يسمع أيضاً "سلوا قلبي" و"نهج البردة" و"وُلد الهدى" و"إلى عرفات الله" وقصيدة "النيل" التي يصف فيها العرس السنوي الذي تزفّ فيه أحدى الصبايا إلى النهر ملك الملوك ومنها:
فـي كـلِّ عــامٍ دُرَّةٌ تُلْقَـى بِـلا
ثمـنٍ إِليــكَ، وحُــرَّةٌ لا تُصْـدَقُ
أَلقتْ إِليـكَ بنفســها ونفِيســها
وأَتتكَ شــيِّقةً حواهــا شَــيِّقُ
خـلعَت عليــكَ حياءَهـا وحياتَهـا
أأَعـزُّ مـن هـذين شـيءٌ يُنفَـقُ؟
ولكن أمير الفصحى الذي ذهب من غير أن ينعم بسماع قصائده على أوتار حنجرة أم كلثوم، كان مستغرقاً في خدمة عبد الوهاب إلى درجة الاستجابة له بتأليف أغانٍ بالعامية المصرية التي كان يخشى منها، ومن شاعرها بيرم التونسي على الفصحى.
انتقل معكم بإيجاز إلى رهين المحبسين أبي العلاء الذي كانت تربطه بعائلة الشريفين الشاعرين الرضي والمرتضى علاقة متينة وقد رثى من قبل والدهما الذي مات في جُمادى سنة أربعمئة على ما تقول الكتب، بعد ذلك حضر في مجلس المرتضى ذكر المتنبي وكان المرتضى يكرهه ويتعصب عليه وكان أبو العلاء يحبه ويتعصب له فانقصه المرتضى وأخذ يتتبع عيوبه فقال أبو العلاء حسبه القصيدة التي مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت انت وهن منك أوهل
فغضب الشريف المرتضى وأمر بإخراجه، وقال المؤرخون فسحب برجله حتى أخرجوه ثم توجه المرتضى إلى مجالسيه: أتدرون لم اختار الأعمى هذه القصيدة دون غيرها من غرر المتنبي قالوا: لا ...قال إنما ليعرض بي ففيها البيت الذي يقول:
فإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
وهذا يدل على حِذق أبي العلاء في التعريض وقوة المرتضى بالفهم.
أين نحن الآن من ذاك، فلقد خرج الشعب عن بكرة أبيه يعرّض بالسلطة تصريحاً وتجريحاً، ولكن أهل السلطة المكابرين المتجاهلين يقولون بفخر وإنكار:
أرأيتم كيف يخرج الناس حباً بنا وتحية لليرتهم المتبخرة في سماء إنجازاتنا؟؟