المحامي الدكتور نقولا فتوش
الجمهورية
التشريع حق سيادي ولا وجود لما سُمّي تشريع الضرورة جهلاً، وقد حسـم الأمر المجلس الدستوري في قراراته، الرقم 1 تاريخ 27/4/2023 والرقم 2 تاريخ 28/4/2023 والرقم 3 تاريخ 4/5/2023 المنشورة في «الجريدة الرسمية» العدد 34 تاريـخ 8/6/2023 في الصفحات 2078 و 2079 و 2080 و 2071 و 2082.
من المسلّم بـه فقهـاً وقانوناً أنّ التشريـع حق سيادي Droit Souverain وقـرارات المجلس الدستـوري تتمتـع بقـوة القضيـة المحكمـة المطلقـة تجـاه الجميـع Erga Omnes الملزمـة للمجلـس النيابـي ولكافـة إدارات الدولـة من دون استثنـاء، عمـلاً بأحكام المـادة 13 من نظام المجلـس الدستـوري، والمجلـس الدستـوري عندمـا يفصـل مسألـة معيّنـة سـواء في الحكـم بصحتهـا يثبتهـا في الانتظـام القانونـي، وعندمـا يقضـي ببطلانهـا أو بمخالفتهـا الدستـور يخرجهـا من الإنتظـام القانونـي Ordonnencement juridique.وعليـه، بعـد قـرارات المجلـس المُبرمـة أصبـح ممنوعـاً على النـواب الحديـث عن تشريـع الضـرورة والاختبـاء وراءهـا ببطولـة سلبيـة مخالفـة للدستـور ولقـرارات المجلـس الدستـوري والتـي نوردهـا حرفيـاً:
«وحيـث إنّـه يقتضـي البحـث في مـا إذا كـان خلـو سـدّة رئاسـة الجمهوريـة أو أنّ اعتبـار الحكومـة مستقيلـة، وكذلـك مصادفـة الحالتيـن معـاً، يحـول دون إمكـان قيـام المجلـس النيابـي بأعمـال التشريـع أو يحـدّ من تلـك الأعمـال، «وحيـث إنّ صلاحيـة تفسيـر الدستـور لـم تنـط بالمجلـس النيابـي بنـصّ صريـح، وبالتالـي في غيـاب النـص الدستـوري يقتضـي العـودة الى المبـادئ الدستوريـة العامـة التـي ترعـى التفسيـر الأصلـي الـذي يرتّـب مفعـولاً ملزمـاً تجـاه السلطـات كافـة.
«وحيـث إنـّه ينبغـي اتبـاع أصـول تعديـل الدستـور في معـرض التفسيـر، عمـلاً بمبـدأ مـوازاة الصيـغ، فيقتضـي مراعـاة إجـراءات التعديـل كاملـة التـي نـصّ عليهـا الدستـور، ولا سيمـا منهـا الأكثريـة الموصوفـة المطلوبـة لسـنّ قانـون دستـوري بهـذا النـص، وسـوى ذلـك غيـر ملـزم للسلطـات الدستوريـة الأخـرى ولا يرتـّب مفاعيـل تجاههـا، ولا سيمـا تجـاه المجلـس الدستـوري في صـدد مراقبـة دستوريـة القوانيـن.
«وحيـث إنّ تصريحات النـواب والكتـل النيابيـة ومواقـفها خـارج إطـار الأصـول المشـار إليهـا أعـلاه لا ترقـى إلى مرتبـة التفسيـر الملـزم للدستـور، وإن كـان الإدلاء بهـا حاصـلاً تحـت قبّـة البرلمـان وأثنـاء انعقـاد الهيئـة العامـة.
«وحيـث انـّه يقـع ضمـن نطـاق صلاحيـة المجلـس الدستـوري أن يفسّـر الدستـور في معـرض رقابتـه على دستوريـة القوانيـن، ويعتبـر ذلـك في صميـم مهمّاته كقـاضٍ دستـوري، وفي هـذا التفسيـر يعطـي النـص الدستـوري معنـاه الملـزم.
«يراجع بهـذا الخصوص:
«L’appréciation portée par le Conceil constitutionnel est le fruit du double travail d’interprétation qui est celui de tout juge, interprétation de la constitution et interprétation de la loi en cause et dont le résultat est l’existence ou non d’un rapport de conformité entre la loi et la constitution.
-Contentieux constitutionnel français, Guillaume Drago. Puf. 1998, P. 308 et 309.
«Pour appliquer une disposition constitutionnelle, le conseil doit au préalable, déterminer sa signification, choisir, par un travail d’interprétation des mots, une signification parmi l’ensemble des possibles.
«La norme constitutionnelle n’apparaît en tant qu’instance d’appréciation de la loi, qu’à partir du moment où le conseil lui a donné un sens.
- Droit de contentieux constitutionnel, Dominique Rousseau, Monchrestien, 4 éd. P. 414.
«كمـا يُراجـع أيضـاً قـرار المجلـس الدستـوري الرقـم 4 /2001 والرقـم 1 /2005.«وحيـث إنّ الجـدل حـول جـواز التشريـع في كنـف الشغـور الرئاسـي منطلقـه المـادة 75 من الدستـور التالـي نصّهـا:
«إنّ المجلـس الملتئـم لانتخـاب رئيـس الجمهوريـة يُعتبـر هيئـة انتخابيـة لا هيئـة اشتراعيـة، ويترتـب عليـه الشـروع حـالاً في انتخـاب رئيـس الدولـة دون مناقشـة أو أي عمـل آخـر.
«وحيـث يقتضـي معرفـة مـا إذا كـان تفسيـر هـذا النـص يوجـب اقتصـار عمـل مجلـس النـواب، خـلال فتـرة شغـور مركـز رئاسـة الجمهوريـة على انتخـاب الرئيـس الجديـد حصـراً، ولـو طالـت فتـرة الشغـور، أم أنّ في استطاعتـه القيـام بالأعمـال الأخـرى الداخلـة ضمـن اختصاصـه وتحديـداً التشريـع.
«وحيـث إنّ النصـوص الدستوريـة والقانونيـة على السـواء تكـون متممـة بعضهـا للبعـض الآخـر دون أي تناقـض في مـا بينهـا، ويجـب ان تُفسّـر في هـذا الإتجـاه، وبشكـل يـؤدي الى إعمالهـا كلهـا وليـس الى تعطيـل بعضهـا للبعـض الآخـر،
«وحيـث إنّ المـادة 75 جـاءت مكمّلـة للمادتـين 73 و 74 من الدستـور التـي توجـب الاولـى منهمـا على المجلـس النيابـي، إذا لـم يـدعَ للإجتمـاع لانتخـاب رئيـس للجمهوريـة قبـل موعـد انتهـاء الولايـة بشهـر على الأقـل وشهريـن على الأكثـر، أن يجتمـع حكمـاً في اليـوم العاشـر الـذي يسبـق ذلـك الموعـد، وتوجـب الثانيـة على المجلـس أيضـاً، في حـال خلـو سـدّة الرئاسـة لأي سبـب كـان أن يجتمـع فـوراً، أي أنّ في إمكانـه لا بـل من واجبـه الإجتمـاع، لـو كـان ذلـك خـارج الـدورات العاديـة التـي يحـق لـه فيهـا التشريـع،
«وحيـث انـّه لـو كانـت نيـة المشتـرع الدستـوري حصـر عمـل المجلـس النيابـي، في فتـرة الشغـور الرئاسـي، بانتخـاب الرئيـس من دون أي عمـل آخـر، لاستعمـال عبـارات آمـرة في هـذا الإتجـاه، كمـا ذهـب إليـه في كثيـر من النصـوص، أو لنـصّ على ذلـك صراحـة كاعتمـاد عبـارة «عنـد خلـو سـدّة الرئاسـة يصبـح مجلـس النـواب هيئـة ناخبـة ولا يحـق لـه القيـام بـأي عمـل آخـر قبـل انتخـاب رئيـس الجمهوريـة».
«وحيـث انّ الغايـة من المـادة 75 هـي إعطـاء الأولويـة لانتخـاب رئيـس للجمهوريـة وحـث المجلـس على الإسـراع في هـذا الإنتخـاب ومنعـه من القيـام بـأي عمـل آخـر أو مناقشـة في الجلسـة المخصّصـة للإنتخـاب، أمـا الشـؤون العامـة الأخـرى الداخلـة في اختصـاص مجلـس النـواب، فيمكـن عرضهـا في جلسـات أخـرى لطرحهـا ومناقشتهـا وأخـذ القـرارات بشأنهـا.
«En fait, il est inadmissible que les chambres ne puissent pendant la durée de la vacance, recevoir et voter des propositions. Il peut y avoir là des crises graves exigeant le vote de mesures législatives d’une extrêmes urgence, or l’on ne saurait admettre que les pouvoirs soient en quelque sorte désarmés».
- Léon Duguit, traité de droit constitutionnel, tome IV, 2ème éd., p. 565.
«وحيـث انـّه لا يمكـن القـول إنـّه يمتنـع على المجلـس النيابـي، خـلال فتـرة الشغـور الرئاسـي، أن يعقـد جلسـات أخـرى للقيـام بالأعمـال التـي تدخـل ضمـن اختصاصـه لأنّ الذهـاب في هـذا المنحـى يـؤدي الى حصـر كـل شـؤون البـلاد بيـد الحكومـة ويطلـق يدهـا في تسييرهـا دون أي رقابـة مع مـا قـد يحتملـه ذلـك من إسـاءة استعمـال السلطـة، وهـذا مـا يخـلّ في شكـل كامـل بالتـوازن بيـن السلطـات المنصـوص على الفصـل بينهـا وتوازنهـا وتعاونهـا في الفقـرة «هـ» من مقدّمـة الدستـور، وبوقـف عجلـة التشريـع في أمـور النـاس اليوميـة والضروريـة والملحـّة في كثيـر من الأحيـان، ويلحـق الضـرر بمصلحـة البـلاد العليـا خصوصاً عندمـا تطـول فتـرة الشغـور الرئاسـي.
«وحيـث انـّه إذا كانـت شـؤون المواطنيـن توجـب التشريـع في ظـل الشغـور الرئاسـي مع وجـود حكومـة كاملـة الصلاحيـات، فإنـّه من بـاب أولـى القيـام بذلـك الواجـب في ظـل حكومـة تصريـف أعمـال وإلّا انتفـت الغايـة من الفقـرة 3 من المـادة 69 من الدستـور التالـي نصّهـا:
«عنـد استقالـة الحكومـة أو اعتبارهـا مستقيلـة، يصبـح مجلـس النـواب حكمـاً في دورة انعقـاد استثنائيـة حتـى تأليـف حكومـة جديـدة ونيلهـا الثقـة».
«وحيـث انّ المجلـس النيابـي في دورة الإنعقـاد الحكمـي هـذه يكـون من حقـه مبدئيـاً، وبهـدف تأميـن سيـر المرفـق العـام، التشريـع في مختلـف المواضيـع لعـدم وجـود أي قيـد صريـح أو ضمنـي على صلاحيتـه بخـلاف مـا هـو الحـال في الـدورات الإستثنائيـة التـي تنعقـد بنـاءً على مرسـوم يصـدره رئيـس الجمهوريـة بالاتفـاق مع رئيـس الحكومـة يحـدّد فيـه برنامـج عملهـا تطبيقـاً لأحكـام المـادة 33 من الدستـور.
«وحيـث انّ القـول بغيـر مـا تقـدّم يـؤدي الى شلـل في السلطـات وتعطيـل المرافـق العامـة، في حيـن أنّ إستقـلال السلطـات عـن بعضهـا يوجـب عيلهـا أن تستمـر في ممارسـة صلاحياتهـا الدستوريـة، بمقـدار مـا تسمـح لهـا الظـروف السياسيـة، وإذا كانـت السلطـة التنفيذيـة في حالـة من الشلـل (بسبـب خلـو الرئاسـة وتصريـف الأعمـال بالمعنـى الضيّـق)، فـلا تؤلـف هـذه الحالـة ولا يجـوز أن تؤلـف عائقـاً أو عـذراً، لكـي تسيـر السلطـة التشريعيـة على منوالهـا،
«- يُراجـع أدمـون ربّـاط، «المجلـس في ظـلّ حكومـة مستقيلـة» مجلـة «الحيـاة النيابيـة»، المجلّـد 78، صفحـة 185.
ad
«وحيـث لا يستقيـم الإدلاء بكـون التشريـع في ظـلّ حكومـة معتبـرة مستقيلـة وشغـور الرئاسـة الأولـى يخالـف مضمـون المـواد 19 و 51 و 56 و 57 من الدستـور طالمـا أنّ صلاحيـات الرئاسـة تُمـارس وكالـة من قبـل مجلـس الـوزراء عمـلاً بالمـادة 62 من الدستـور، ووفقـاً للآليـة التـي حدّدتهـا المـادة 65 من الدستـور،
«وحيـث في مـا يختـص بإصـدار القانـون فإنّـه يتوجـب على مجلـس الـوزراء الإنعقـاد، بوكالتـه عن رئيـس الجمهوريـة، واخـذ القـرار في شـأن إصـدار القانـون وفقـاً للآليـات الدستوريـة المعتمـدة لعقـد جلساتـه واتخـاذ القـرارات،
«وحيـث انـّه نظـراً لكـون الأمـور لا تسـري على طبيعتهـا في فتـرة الشغـور الرئاسـي، ونظـراً لأهميـة موقـع رئاسـة الجمهوريـة في الهيكليـة الدستوريـة، كونه رئيسـاً للدولـة، ورمـزاً لوحدتهـا، والساهـر على احتـرام الدستـور، مـا يجعـل دور رئيـس الجمهوريـة محورياً وأساسياً لأنـّه يصـون وحـدة الدولـة وهيبتهـا وشرعيتهـا، ويحافـظ على انتظـام دور السلطـات العامـة ومؤسساتهـا، فإنـّه يقتضـي الإسـراع في انتخـاب الرئيـس وعـدم استسهـال التشريـع في مرحلـة الشغـور،
«وحيـث انـّه تبعـاً للنتيجـة التـي تـمّ التوصـل اليهـا، وهـي جـواز التشريـع في ظـل أحكـام المـادة 75 من الدستـور، فإنـّه يقتضـي ردّ كـل مـا أُدلـي بـه بخـلاف ذلـك.
بعـد كـل ذلـك،
مطلـوب من النـواب الكـرام قـراءة قـرارات المجلـس الدستـوري والتقيّـد بهـا، وإلاّ نبقـى ضمـن وجهـات النظـر المجافيـة للحقيقـة والتـي أوصلـت الوطـن الى مـا هـو عليـه. فالمجلـس لـه الحـق والسلطـة بالتشريـع ضمـن الحـدود الدستوريـة وليـس المزاجيـة. وكفـى تضليـلاً للشعـب المسكيـن، هـذا المجمـوع الحائـر الصابـر المتألـم المرتقـب طلائـع الفـرج ومواكـب السعـادة تسوقهـا إليـه زمـرة اختارهـا. لا بالنكـد، بـل بالمحبـة والأخـلاق نبنـي الوطـن.
وصـدق القديـس أوغسطينـوس حيـن قـال: «أحبـب وافعـل مـا تشـاء».