مُثمرًا كان ذاك اللقاءُ الـمَيْرُوبيّ لدى الدكتور كميل جبيلي مرورًا بأَفياءِ الصنوبر والزيتون، جُلُوسًا في جنَّتِه الـمُزَنَّرةِ بأَشجار فاكهة لبنانية تتنافس ثمارُها على أَيِّها الأَطْيَب. غير أَن طِيبَ الثمار يومها تزامَنَ مع لقائي نُخبةً من شبابنا المهاجرين دعاهم الدكتور جبيلي إِلى هذا اللقاء، حرصًا منه على تعريفهم بلبنانَ الجلال بعد تجوالهم في لبنان الجمال. ويكون أَنه دعا إِليه كذلك رئيسَ الجامعة الثقافية اللبنانية في العالَم المحامي نبيه الشرتوني، وأَمينَها العام روجيه هاني، ورئيسةَ "مجلس الشبيبة" كريستينا سلامة، وهم يرافقون وفدَ لبنانيين شبابٍ يزورون هذا الصيفَ أَرضَهُم الأُم، وبعضُهم يزورُها للمرة الأُولى أَرضَ آبائهم والجدود.
سعِدتُ بالجلوس ومحادثة هؤُلاء الشباب الناضحين شوقًا لاكتشاف لبنان، وسمعتُ من عيونهم رغبةَ التعرُّف بما لم يكونوا يميِّزون فيه بين يأْسِهم من واقعِ ما يعاينون، وتشوُّقِهِم لِما يجب أَن يعلموا عن لبنان الذي إِنْ لم يعرفوه لا يمكن أَن يحبُّوه ويُؤْمنوا به.
ضئيلًا كان ما قلْتُهُ لهم لكنَّهم تلقَّفوه في شَغَف. شرحتُ لهم الفَرق بين لبنان الوطن ولبنان الدولة. قلتُ لهم إِن ما يَرَونَه من بؤْس حولَهم هو بسبب الدولة الفاشلة ومَن يقودُها في السُلطة منذ سنواتٍ بل عُقُود، وإِنَّ لبنان الذي اليوم يحضُنُهم وحضَنَ آباءَهم قبلهم والجدود، هو لبنان الوطن الحضاري بما فيه من قيَمٍ عريقةٍ وتراثٍ مُؤَصَّلٍ وطبيعةٍ فريدةٍ وآثارٍ نادرة وتاريخٍ مجيدٍ وسياحةٍ بهيَّة، وأَعلامٍ كبارٍ خالدين هُمُ الذين إِليهم ينتسِبُ الوطن. وقلتُ لهم إِن جبران حين قال "لكُم لبنانُكُم ولي لبناني" كان يستقيل من لبنان الدولة الفاشلة لا من لبنان الوطن الخالد، بدليل أَنه عاد وقال "لو لم يكُن لبنان وطني لاتَّخذْتُ لبنان وطني"، فهو كان يؤْمن أَنَّ لبنان الوطن هو هو الحقيقةُ اللبنانية، وأَنَّ لبنان الدولة، بسُلْطتها وسياسييها وثعلباتهم، هو لبنانُ السياسيُّ الموقَّت الزائل.
وقلتُ لهم أَلَّا يكفُروا بلبنان وطنًا حاميًا عطوفًا حنونًا، بل أَن يكفُرُوا بكلِّ مَن في سلطته خدَمَ ذاتَه ونسْلَه ولم يخدُم الدولة التي يُفترَض به أَنه خادمُها لا أَن تكون مطيَّةً له كي يخدُم عشيرتَه ومحازبيه وأَزلامَه القُطعانيين.
وقلتُ لهم أَن يُؤْمنوا بلبنان الأَرض والشعب وأَلَّا يَستزلِموا لأَحد من رجال السلطة الذين هدَّموا الدولة ووجهَها الاقتصادي والاجتماعي، وأَلَّا يظنوا بأَنَّ الدولة سقطَت بل قادتُها سقَطوا. فالدولة أُمُّنا وحاجتُنا ومرجِعُنا وحمايتُنا، ويجب أَن نرفضَ مَن قادوها إِلى الخراب وأَن نتمسَّك بها كي تعودَ فتجمعَنا وتحمينا إِنما... بقادَةٍ جُدُدٍ غيرِ هؤُلاء الدينوصوريين الذين نهَشُوها حتى رَمَوها مشلولةً هامدة. قلتُ لهم أَنْ يُحبُّوا الدولة السليمة الحازمة الجازمة الحاسمة العادلة الحاميةَ حقوقَ أَبنائها، وأَنْ يغضبوا على كلِّ مَن لا يخدمُ الدولة وأَبناءَها كي لا تَتَشَوَّهَ صورةُ الوطن كما هي اليوم مهشَّمةٌ في العالَم بفشل أَهْل هذه السلطة اليوضاسية الغادرة.
كثيرًا بعدُ قلتُ لهم، أَولئك الشباب، وسمعْتُ من عيونهم فرَحَ ما اكتشفُوه من الحقيقة اللبنانية الساطعة، ومن الفرق الشاسع بين لبنانِهِم الوطن عنوانِ الثبات، ولبنانِ السلطة والدولة الآيلِ إِلى الخراب. وفي نهاية كلامي وَعدوا بأَن ينشروا ذلك في محيطهم فيعودوا الصيف المقبل مع رفاقٍ لهم جدد يقْبلون بفرحِ اكتشافِ الوطن الذي بناه آباؤُهم وجدودُهم وخَرَّبَهُ مَن ساسوه إِلى الخراب.
عند مغادرتي تلك الجنَّةَ في ميروبا، صافحَني سيِّدُها كميل الجبيلي مُودِّعًا سائلًا أَنْ لو تُعاد، فأَجَبْته أَني ناذرٌ صوتي وقلمي للحقيقة اللبنانية، ويطيبُ لي أَن أَتحدَّثَ في أَيِّ جمْع من مواطنينا، مقيمين أَو زائرين، كي تنقشِعَ عنهم غمامةُ الخلْط بين الوطن والدولة، فَتَنْجَلي لهم حقيقةُ حبِّ الوطن ويصبُّوا لَعنتَهُم على مَن في سلطتِه أَفسدوا دولتَه فَشَوَّهوا صورتَه في قلوب أَبنائه وفي العالَم.