نوال نصر - نداء الوطن
12 تموز 2006 بداية حرب ضروس. طائرات تدكّ الجسور. مبانٍ على الأرض. تشرّد. خوف. موت. ومجهول. 33 يوماً ذاق فيها اللبنانيون العلقم. وأتى 14 آب. إنتصر «حزب الله». اللبنانيون لا. وها هو 12 تموز يطلّ من جديد بعد سبعة عشر عاماً من 12 تموز ذاك. ولبنان سنة بعد سنة يلملم الجراح والخراب ويحاول أن يقوم من الموت. فما معنى ذاك الإنتصار الذي يحدثوننا عنه وينتشون به؟ أليس الإنتصار الحقيقي هو كسر العدو في عقر داره هو؟ أهو انتصار أن يصفع المنهزم المنتصر بقوة ويغادر إلى بلاده بأقل أضرار؟ آه لو كانوا يعلمون؟
كم يمرّ الوقت والعمر بسرعة. البارحة، في الثاني عشر من تموز 2006، عشنا حرب تموز. مضت سبعة عشر عاماً مثل لمح البصر. وها نحن اليوم، في الثاني عشر من تموز 2023، نتوقّع من جديد حروباً تموزية في حياتنا المقلوبة رأساً على عقب. نحيا وكأننا لا نحيا. نحيا لنتذكر. نحيا لنحرّر فلسطين والقدس ونزيل إسرائيل من الوجود. المقاومة جميلة. مقاومة العدو الذي يجرؤ على النظر الى دارنا جميلة لكن ألّا نحيا إلا على وقع طبول الحرب من أجل كل شيء، من أجل أي شيء، ليست لنا به صلة فهذا يقضي على صاحبه، على لبنان، على اللبنانيين في لبنان قبل أي أحد آخر. والمشهد اللبناني الحالي خير دليل.
قرقعة طبول
خسرنا أم ربحنا، سيمفونية الإنتصار تظلّ تعزف. أتتذكرون معركة ميسلون؟ حصلت أيضاً في تموز العام 1920. فيروز غنّت ميسلون: «على الأرض بين الوحول وفوق الدروب الطوال نشقّ الطريق ونمضي تباعا نخوض القتال/ عند الحدود في ميسلون لنا ذكريات بطولات جيش تحدى المنون ليبني الحياة». نحن شعوب تحبّ الغناء والأناشيد.
لن تتكرّر
اليوم، نسمع قرقعات جديدة وأصابع تنذر وأصواتاً ترتفع هاتفة: فإن حزب الله هم الغالبون. شعارٌ مستهلك. ماذا في الوقائع: هل تنذر التوترات المتجدّدة في الجنوب بحرب تموز جديدة؟ سألنا الجنرالين (المتقاعدين) وهبه قاطيشا وأمين حطيط عن مفهومي الإنتصار والإنكسار وعن الاستراتيجيات العسكرية في الحروب وعن الشبه بين التموزين: 2006 و2023؟
الجنرال المتقاعد أمين حطيط يلفت الى أن الحرب لا يمكن أن تتكرّر اليوم. البيئة العسكرية والاستراتيجيّة تختلف اليوم عمّا كانت أمس بالنسبة الى إسرائيل والى لبنان أيضاً. يومها كانت إسرائيل مستعدة لحربٍ - وهذا تحذير سمعته بأذنيّ الإثنتين. في العام 2000، تمسّكت إسرائيل باثني عشر متراً على الخط الأزرق. وحين سألنا عن هذا الإصرار أتى الجواب واضحاً: إنها تلزمنا للحربِ المقبلة. اليوم، الوضع مختلف في إسرائيل. هناك ثلاثة عوائق تمنعها من التفكير في الحرب:
أولاً، العامل الأول يتعلق بوضع المجتمع الصهيوني والإنقسامات الداخلية.
ثانياً، تدني جهوزية الجيش الإسرائيلي ورصد انخفاض المعنويات للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل. هناك 1100 متطوع رفضوا تجديد عقودهم في الجيش.
ثالثاً، هناك يد تؤلم اليوم إسرائيل. هي تخشى على مستقبل الغاز الذي بدأت تستخرجه، والحرب، كما تعلمون، لا ضوابط لها. لا أحد يعرف كيف قد تتدحرج كرة النيران وفي أي اتجاه. إنطلاقاً من ذلك لن تخاطر إسرائيل.
قال ما قال الجنرال حطيط: «إسرائيل لن تفعلها». لكن، ماذا لو فعلها «الحزب» مجدداً كما حصل في 2006؟ ماذا لو تطوّرت الأحداث وفلتت من بين الأيدي؟ يجيب حطيط: «أساس تركيبة «حزب الله» تعتمد الإستراتيجية الدفاعية. في العام 2006 بادر الى أسر عنصر إسرائيلي(أسر جنديين) ولم يشنّ الحرب. بكلام آخر، إذا كرر اليوم هذا الفعل فليس معناه أنه يشنّ الحرب على إسرائيل التي تعرف أن قرار الذهاب الى الحرب عندها. وإذا هاجمت إسرائيل لبنان فسيدافع الحزب ويردّ الهجوم لكنه - يكرّر حطيط - لن يبادر الى الهجوم. هذه استراتيجية الحزب».
لكن، ألم يسمع الجنرال «حزب الله»- وسيد «حزب الله»- يقولان: نحن من نملك قرار الحرب والسلم؟ يجيب: «إنها جملة مستهلكة. من يملك الإستراتيجية الهجومية هو من يملك قرار الحرب والسلام. وحزب الله يعتمد استراتيجية دفاعية».
ونحن نسمع حطيط يتكلم عن استراتيجية الحزب نشعر وكأننا أمام طفلين يلعبان. أحدهما - المدلل - يرمي الآخر بحجر ويختبئ وحين يهجم عليه من ضُرب بالحجر يركض في كل الإتجاهات ويقول: إنه يضربني... إنه يضربني...
إقرار بالهزيمة
سبعة عشر عاماً مرّت. ركض الوقت أما نحن فنعجز حتى عن الجمود في مكاننا. إننا نتراجع حتى أصبحنا في ما يُشبه القرون البائسة. فلنسأل الجنرال وهبه قاطيشا عن التموزين؟ هو كان على هواء تلفزيون المستقبل في حلقة تبث مباشرة لحظة خطف «حزب الله» الجنديين الإسرائيليين - كان يشاركه في البرنامج علي حماده - وأتذكر أن أمين عام «حزب الله» قال يومها: روحوا صيفوا. ويستطرد الجنرال قاطيشا: «ما حدث في 12 تموز ذاك لم يكن عملية عسكرية بل خطفاً، أما ردّة الفعل الإسرائيلية فكانت كبيرة. وبالنسبة الى النتائج أتت كارثية على لبنان وحزب الله بدليل أمرين: أولهما، نداءات الإستغاثة التي صدرت حينها تحت عنوان: أين العرب يا جماعة؟ وثانيهما، قول نصرالله لو كنت أعلم. هذا إقرار بالهزيمة. وتلى الحرب القرار1701 الذي نصّ على وجوب ألّا يبقى سلاح في جنوبي الليطاني والذي لم يُحترم يوماً. حزب الله لم ينتصر يومها لكن ثقافة تسويق الهزيمة سادت. ما حصل يُشبه أحداً «أكل قتلة» لكنه لم يمت فخرج منها منتصراً، فاستثمرها. ما حدث يشبه من «فركش» مايك تايسون أو محمد علي كلاي فظنّ أنه انتصر عليهما».
هذا ما حدث البارحة، قبل سبعة عشر عاماً، لكن، ماذا عن التوقعات اليوم؟ هل الترسيم الذي يعتبره البعض أشبه بسلام حدودي قد ينهار فتولد الحرب من جديد؟ أم أن ما نسمع به في قرية الغجر ومزارع شبعا وفي كفرشوبا لا يتعدى شكل المناوشات؟ يجيب قاطيشا: «مستحيل نشوب الحرب اليوم لأن حزب الله يعرف تماماً أنها ستقضي عليه عسكرياً. هو يتظاهر بأنه يحارب إسرائيل وسلاحه ضدّ إسرائيل ويُشكل قوة ردع ويثير الذعر لدى إسرائيل، في حين أنها تزدهر ولبنان يتحلل».
هنا، نسأل قاطيشا: لكن، نسمع أن «حزب الله» لا يهاجم ولن يذهب الى الحرب إلا إذا فعلت إسرائيل ذلك وهي ليست مرتاحة لتشنّ حرباً... يقاطعنا بالقول: «عسكرياً، إسرائيل مستعدة للحرب بدليل المناورات التي تجريها في شمال إسرائيل، لكن الدول عادة لا تذهب الى الحرب إلا إذا تعرّضت الى إعتداءات متكررة». ويستغرب ما يقال إن «حزب الله» لا يشن حرباً بل يدافع فيقول: «وكيف تبدأ الحروب يا ترى؟ أليس سببها الإعتداءات المتكررة من جانب ما؟».
نحمل تلك الأسئلة التي طرحها قاطيشا ونسألها الى حطيط: ألا تبقي المناورة التي أجراها «حزب الله» أخيراً - في أيار الماضي - لبنان في أسر الفوضى المفتوحة على كل الإحتمالات؟ أليس الإنتصار البديهي يكون في عدم إقحام الدول في ما يمكن تجنّبه من حروب؟ أليست الفاتورة الباهظة التي دفعها لبنان ثمناً لحرب تموز تجعل أي إدعاء بالإنتصار هرطقة؟ يجيب حطيط: «النصر معناه أن يمنع المدافع المهاجم من الوصول الى أهدافه، أما الخسائر المادية فلا علاقة لها بالنصر والهزيمة بل بكلفة الحرب. أحياناً يخسر طرف كثيراً لكنه ينتصر. وانتصاره هذا يتأتى نتيجة وضع أهداف والوصول إليها. وبالتالي، الخسائر ليست دليلاً أبداً على نصر ولا على هزيمة بل تقاس كثمن للنصر والهزيمة. واسمها: كلفة.
لا، لا داعي لنناقش نتائج تموز ذاك لكن، نتمنى ألّا تتكرّر- ولو صورياً- في تموز هذا. لبنان في 2023 لم يعد ذاته في 2006. المقاومة لم تعد أيضاً نفسها. أمور كثيرة تبدلت. ثمة ترسيم بحري حصل. لكن، في مقابل كل ذلك، هناك حاجة لتبقى حالة: ضربني وضربتو!
الجنوب و«حزب الله» وحماقة الدولة
كأنه كُتب على لبنان ألّا يرتاح. «حزب الله» استفاد مرات من حماقة الدولة. وهذا طبعا ليس سراً. حاجات الأهالي على الشريط الحدودي جعلت اليونيفيل تقرّر في العام 2007، عبر ريتشارد مورشنسكي وأصله بولوني تأسيس قسم الشؤون المدنية في الجنوب الذي يتشكل من 21 شخصاً. ومنذ ذاك الحين قسّمت اليونيفيل الجنوب الى قسمين: القسم الشرقي من شبعا الى عيترون. والقسم الغربي من عيترون حتى الناقورة. وفي كل قطاع ثكنة لقيادة القطاع ومكتب الشؤون المدنية وهناك مكتب ثالث لتلك الشؤون ما بين القطاعين ومكتب رابع في الناقورة. ومهمة تلك المكاتب أن تكون صورة اليونيفيل أمام المجتمع المحلي وصورة المجتمع المحلي أمام اليونيفيل. وهي التي ساهمت بجرِّ الدولة الى الجنوب وبجرِّ مسؤولين لا يعرفون أبعد من صيدا وبعض صور. وأول رئيس للجمهورية منذ استقلال لبنان زار الشريط كان العماد إميل لحود في العام 2002. قبله لم يأت أحد. موازنة الشؤون المحلية في اليونيفيل هي 500 ألف دولار توزعها على 161 قرية وبلدة وفق قواعد أن لا تزيد قيمة المشروع المنوي إعداده عن 25 ألف دولار، وأن ينفذ في خلال ثلاثة أشهر، وأن يستفيد منه أكبر عدد من السكان. وشتان ما بين قواعد اليونيفيل وقواعد الدولة!
الدولة اللبنانية البطيئة ذهبت الى الشريط متأخرة كثيراً وبات الظهور الشرعي المسلح هناك عبرها. أما «حزب الله» فبدّل قواعد اللعبة المعلنة وألغى كل وجوده العلني المنظور لكنه استمرّ الآمر الناهي في كواليس اللعبة.
كل ما يحدث تحت مرأى اليونيفيل. غريب.
مقرّ اليونيفيل أشبه بدولة صغيرة. ونشاطُها، في مساعدة الناس على الصمود، يُشكّل بديلاً عن نشاط الدولة الأصيلة التي كلما دقّ الكوز في الجرّة تدير ظهرها وتمشي. يتذكر أحد سكان الشريط العام 2006، حين كان عديد قوات الطوارئ أربعة آلاف جندي وأصبح بعد القرار 1701 نحو 10500 جندي، خمسة الى سبعة من المئة منهم نساء. النساء يضفن حياة في كل مكان فكيف في مقرّ للسلام. هؤلاء، جنود وضباط قوات الطوارئ، يساعدون الناس في الزراعة وفي الصناعات الزراعية والألبان والأجبان إلى مربيات ومنتجات غذائية تعود عليهم بالأرباح وتساعدهم على التجذر في الأرض. الجنوبيون ظنوا أنهم بخير. لبنان ظنّ أنه قد يكون بخير. لكن، من يمتلك سلاحاً ويخاف عليه سيظل يبحث عن سبل البقاء. والمناوشات من عناصر البقاء.
في الجنوب، بحر الناقورة، والبحر هناك هادئ... وهناك قول ينطبق هناك تماماً: خافوا من البحر الهادئ.