ندى عبدالرزاق - الديار
لم يعد الاملاق في لبنان مقيّد ضمن الطبقات التي تحيا على الحد الأدنى من الرواتب، او بالنسبة لتلك التي تتقاضى اجرها بالعملة المحلية. بل اضحى البؤس متعدد الأوجه حتى بات يطال جميع الفئات والشرائح الاجتماعية بما فيها الزمرة الميسورة التي لم تعرف يوما معنى الإفلاس ولم تتذوق الضيق والعوز، وذلك بعدما انهارت قيمة الليرة اللبنانية، والضائقة الاقتصادية الشرسة طالت اهم جوانب الحياة حتى صارت المعيشة على شفا حفرة من النار.
هجرة الادمغة
بالموازاة، الانهيار غيّر المفاهيم والمعايير التي تحدد أسس الطبقات الاجتماعية في لبنان، حتى ان اتساع الهوة المادية هزّ الأثرياء وامتد إليهم الشَظَف، وان بطرق مختلفة.
ودفعت المحنة الاقتصادية الى هجرة ما لا يقل عن 25 ألف أستاذ من العام 2019 الى 2022 وذلك بحسب بيانات «الدولية للمعلومات»، وهذا الامر أدى الى تراجع جودة التعليم في لبنان. كما ان بعض الجامعات الخاصة خفضت من فروعها وكلياتها وباتت الاختصاصات العلمية محدودة جدا.
ارتِحَال الأطباء
على خطِ موازِ، ارتفعت وتيرة هجرة الأطباء بشكل كبير وفي هذا السياق تشير البيانات الى ان لبنان فَقد أكثر من 5000 الاف طبيب منذ أواخر العام 2019، وهذا أدى الى اقفال العديد من المستوصفات ومراكز الرعاية الصحية، بسبب فقدان الادوية وغياب المستلزمات الطبية، حتى ان الخدمات في لبنان أصبحت تعاني من الاهتراء، وأغلقت العديد من المستشفيات اقساما نتيجة ارتفاع التعرفة وعدم قدرة المواطن على تحمل الرسوم المدولرة حتى غدا المرض والوجع ارحم.
وفي هذا السياق، تناول تقرير حديث للأمم المتحدة صدر في تموز الماضي التعداد السكاني العالمي والتوقعات حتى عام 2100، بيّن ان لبنان من بين 33 دولة حول العالم ظهر في القائمة، أي انه الدولة العربية الوحيدة. وقد سلط الضوء على أسباب التراجع المستمر في أعداد السكان. ووفقا للتقرير، يمكن ان يؤدي انخفاض عدد افراد المجتمع الى شيخوخة السكان وانعدام اليد العاملة لا سيما فيما يتعلق بالعاملين ذوي التعليم العالي والمهارات العالية، ومن المرجح ان يؤدي هذا النقص الى انخفاض شامل في نوعية الحياة والبرامج الممولة من الحكومة، والناتج المحلي الإجمالي الوطني.
«القدر المجهول»
وفي سياق متصل، أظهر مسح أجرته «اليونيسف» أن «الأسر في لبنان بالكاد تستطيع تلبية احتياجاتها الأساسية على الرغم من خفضها للنفقات بشكل كبير، إذ يضطر عدد متزايد من الأسر إلى إرسال الأطفال وبعضهم لا يتجاوز الست سنوات للعمل في محاولة يائسة للبقاء على قيد الحياة في ظلّ الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي تجتاح البلاد».
وترسم نتائج الاستبيان «صورة دراماتيكية للحالة مع استمرار تفاقم الأزمة للسنة الرابعة على التوالي، مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة على الأطفال».
وفي هذا الإطار، قال ممثل اليونيسف في لبنان إدوارد بيجبيدر إنّ «الأزمات المتشعّبة المتفاقمة التي يواجهها أطفال لبنان تؤدّي إلى وضعٍ بائس، يائس، لا يُحتمل، وتطيح بمعنوياتهم، وتضرّ بصحتهم النفسيّة، وتنذر بالقضاء على أملهم بمستقبلٍ أفضل».
وقالت «اليونيسف: «يستند التقرير إلى أحدث تقييم سريع حول مستوى عيش الأطفال في لبنان، ويُظهر أن نحو 9 من كل 10 أسر لا تملك ما يكفي من المال لشراء الضروريات، مما يجبرها على اللجوء إلى تدابير قاسية للتعامل مع الأزمة.
ويبين التقرير ما يلي:
أوقفت 15 في المئة من الأسر تعليم أطفالها، مسجلة بذلك ارتفاعاً من 10 في المئة قبل عام واحد. وخفّضت 52 في المئة من إنفاقها على التعليم، مقارنة بنسبة 38 في المئة قبل عام.
وقلّصت ثلاثة أرباع الأسر الإنفاق على العلاج الصحي، مقارنة بـ 6 من كل 10 في العام الماضي.
كما اضطرت 2 من كل 5 أسر إلى بيع ممتلكاتها، بعد أن كانت أسرة واحدة فقط من كل خمس تفعل ذلك في العام الماضي.
وارغمت أكثر من أسرة واحدة من بين كل 10 أسر على إرسال الأطفال إلى العمل كوسيلة للتكيف مع الأزمات العديدة، مع ارتفاع هذا الرقم إلى ما يقرب أسرة واحدة من بين كل أربع من أسر النازحين السوريين أرسلت أطفالها الى العمل».
وأضافت، «على الرغم من كل تدابير التأقلم اليائسة المعتمدة، تعجز أسر عديدة عن تحمّل تكاليف ما تحتاج إليه من طعام من حيث الكمية والنوعية، بالإضافة إلى عجزها تحمّل نفقات الحصول على العلاج الصحي.
ومن الجدير ذكره أن «الأزمة تؤدّي أيضاً إلى ارتفاع في فقر الدورة الشهرية، ما يزيد عن نصف ممن شملهن الاستطلاع من النساء والفتيات أنهنّ يفتقرن الى ما يكفي من مستلزمات النظافة النسائية، مثل الفوط الصحية، وجميعهن تحدّثن أنها أصبحت الآن باهظة الثمن بنسبة تضاهي بأشواط قدرتهن على شرائها.
لذا نلاحظ، ان أسعار أدوات العناية الشخصية النسائية اضعاف تلك المخصصة للرجال.
ووفق «اليونيسيف»، «عبّر العديد من مقدمي الحماية بأنهم يعانون جراء الوضع الميؤوس منه من ضغوطات هائلة، تولّد مشاعر غضب تجاه أطفالهم، إذ نتيجة لذلك، شعر ستة من كل عشرة من هؤلاء بالحاجة الماسة الى الصراخ على اطفالهم، وشعر اثنان من كل عشرة بحنقٍ شديد كاد يؤدي الى استخدام الضرب ضدّهم في الأسبوعين الماضيين من إجراء الاستطلاع.
وتتسبب التوترات المتصاعدة، إلى جانب الحرمان، في أضرار فادحة في صحة الأطفال النفسية. بحيث قال سبعة من كل عشرة من مقدمي الرعاية أن اطفالهم بدوا قلقين، متوترين ومضطربين. والنصف تقريبا قالوا إن اطفالهم بدوا حزينين للغاية أو يشعرون بالإكتئاب بشكل متكرر، بحسب «اليونيسيف».
كما لفت التقرير إلى «تزايد الثغرات في النظام الوطني للحماية الاجتماعية ومحدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية، لا سيما التعليم والصحة، من صعوبة مواجهة الأسر للأزمة».
وحثّت «اليونيسف» الحكومة على «الإسراع في تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية التي وضعت مؤخرا، والتي تتضمن خططا لتقديم المنح الاجتماعية لمن هم في أمس الحاجة إليها، بما في ذلك الأسر الأكثر ضعفاً وتلك التي تربي أطفالا. كما تدعو اليونيسف الحكومة الى الاستثمار في التعليم من خلال الإصلاحات والسياسات الوطنية لضمان حصول جميع الأطفال وخاصة الأكثر ضعفا منهم على تعليم شامل وعالي الجودة».
وقال بيجبيدر: «إن زيادة الاستثمار في الخدمات الأساسية للأطفال وعلى وجه التحديد التعليم والصحة والحماية الاجتماعية سيساعد على التخفيف من تأثير الأزمة، وضمان رفاه الأجيال القادمة وبقائها على قيد الحياة، والمساهمة في استعادة الاقتصاد اللبناني عافيته».