جورج شاهين - الجمهورية
فرض تعيين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وزير الخارجية الأسبق جان إيف لودريان مبعوثاً خاصاً إلى لبنان قراءة جديدة للموقف الفرنسي من لبنان. وإن اعتُبر تكليف هذا الديبلوماسي العتيق والأعلى رتبة ومستوى بين المقرّبين من الرئاسة الفرنسية، خطوة متقدّمة تعّبر عن حجم الاهتمام الفرنسي بلبنان، فقد دعت مراجع ديبلوماسية متعدّدة إلى التريث في البناء عليها، للتثبت من قدرات الديبلوماسية الفرنسية، قبل الحكم على مهمّة الرجل. وعليه، ما الذي يقود إلى هذا التريث؟
لن يكون صعباً على لودريان تفهّم الوضع في لبنان وما بلغته الأزمة فيه من زواياها المختلفة. وفي النظر إلى حجم فهمه للوضع في لبنان، قد تكون مهمّته هي الأسهل وربما الأقصر في تاريخ الموفدين الفرنسيين إلى بيروت. وهي مهمّة تُقاس بالمهلة التي يحتاجها ليرفع توصياته إلى رئيسه المباشر. ذلك أنّ التطورات لم تأتِ بجديد منذ ان انتهت مهمّته الأولى التي أعقبت أزمة تفجير مرفأ بيروت، وتردّدات الأزمة النقدية والمالية التي تزامنت وجائحة كورونا التي اجتاحت العالم، ولم تستثنِ لبنان الذي كان الأكثر تأثراً بسبب حجم الأزمات الاخرى التي تناسلت على أكثر من مستوى. فلودريان عاين الوضع اللبناني من قرب، من موقعه كوزير للخارجية منذ بداية ولاية ماكرون في العام 2017 وحتى نهاية ولايته العام 2022.
ولذلك، جاء تكليف لودريان انسجاماً مع تلك المهمّات التي قام بها في الفترة التي رافقت مسلسل الأزمات، وواكبت المبادرة التي أطلقها ماكرون عقب زيارته الاولى إلى بيروت في السادس من آب، بعد يومين على عملية تفجير المرفأ، وما انتهت اليه النكبة، طالباً العون الدولي لتجاوز المأساة، قبل ان يعود إلى لبنان في الاول من ايلول، تاريخ الاحتفال بالمئوية الاولى للبنان الكبير، تاركاً المرحلة التي تلتها في عهدة لودريان الذي واكبها بكثير من الجهد الذي لم يُسفر عن أي إنجاز يمكن ان تسجّله باريس في حساباتها.
وعندما يعود لودريان إلى بيروت، سيستذكر تلك المحطات الصعبة التي واجهها، وصولاً إلى ما انتهت اليه مهمّته ما بين العام 2020 ونهاية العام 2021. فهو كُلّف بداية معالجة الأزمة الحكومية ومجموعة الأزمات المعيشية والمالية والاقتصادية، مع سعيه إلى تشكيل «حكومة المهمّة» التي كُلّف بها السفير مصطفى اديب بعد استقالة الرئيس حسان دياب في العاشر من آب، وتكليفه مهمّة تأليفها في 31 آب، واستقالته، تاركاً بيروت عائداً إلى مهمّته في سفارة لبنان في ألمانيا في السادس والعشرين من ايلول. كان ذلك من باب التطورات المتسارعة التي تفاقمت إلى أن أدّت إلى إعادة تكليف الرئيس سعد الحريري المهمّة في 22 تشرين الاول 2020، بعد اقل من عام بشهر واثني عشر يوماً على استقالته التي تقدّم بها في 29 تشرين الأول 2019 بعد اثني عشر يوماً على «ثورة 17 تشرين» العام 2019.
واكب لودريان تلك المرحلة وسعى إلى إقناع اللبنانيين بضرورة تشكيل الحكومة وفق البرنامج الذي أعدّه ماكرون، على وقع ما أُشيع عن ترحيب ودعم دوليين، قبل ان تسقطه التركيبة اللبنانية التي أنعشها ماكرون منذ ان أعاد جمع القيادات اللبنانية في قصر الصنوبر في الأول من أيلول 2020، وسط أجواء أوحت انّ الشعب اللبناني قد حاكمها إلى درجة قاسية في ثورة 17 تشرين عام 2019، قبل ان تتعاظم النقمة تجاهها بعد تفجير مرفأ بيروت.
وتأسيساً على ما تقدّم، التقت مصادر ديبلوماسية وسياسية عند قراءتها للخطوة الماكرونية الجديدة، على التريث في الحكم عليها، وما يمكن ان تؤدي اليه في انتظار الزيارة الأولى للودريان والمتوقعة في الأيام القليلة المقبلة، إن صحّت بعض المعلومات التي قالت إنّه سيكون في بيروت مطلع الاسبوع المقبل، والّا في نهايته، بعد عبور محطة الرابع عشر من حزيران تاريخ انعقاد الحلقة الثانية عشرة من مسلسل انتخاب الرئيس، كما نصحت بعض المراجع اللبنانية التي تواصلت مع خلية الأزمة في الاليزيه في الساعات القليلة الماضية، من دون التثبت إن كان الإتصال من بيروت في اتجاه باريس او بالعكس، حيث تردّدت معلومات انّ أفراداً من الخلية أرادوا الاطلاع على ردّات الفعل اللبنانية المحتملة لتعيين لودريان.
واياً كان الموعد الذي سيطأ فيه لودريان أرض لبنان، سيجد نفسه أمام التركيبة اللبنانية نفسها التي تعاطى معها في مهمّته السابقة. وإن غاب ملف تشكيل الحكومة ومعها الإصلاحات الادارية والمالية التي لم ترّ النور، على الرغم من الجهد الذي بذله لهذه الغاية، وما حاول القيام به خَلَفه السفير بيار دوكان الذي انتهت مهمّته قبل إعادة تكليفه ثانية. وسيحضر ملف الاستحقاق الرئاسي، من دون ان يغيب أي من القيادات اللبنانية عن المشهد السياسي. فباستثناء انّ لقاء محتملاً إن كان مقرّراً مع الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون، سيكون في الرابية بدلاً من قصر بعبدا، فيما سيبقى الآخرون أنفسهم في الضاحية الجنوبية وبنشعي وعين التينة والصيفي ومعراب وكليمنصو. وفي غياب اي موعد في «بيت الوسط»، قد يضطر إلى زيارة الحازمية في حال تقرّر اي لقاء مع المرشح السابق ميشال معوض.
إلى هذه المعطيات التي لا يمكن إهمالها عند إجراء المقاربة الاستباقية لمهمّة لودريان، يرى المراقبون انّ عليهم ان يبحثوا عن الأجواء الفرنسية التي دفعت الرئيس الفرنسي إلى تكليفه، وسط نقاش لم يُحسم بعد في بيروت. وعلى عكس ما قرأها البعض في لبنان، وكأنّها أنهت مهمّة أعضاء خلية الأزمة الفرنسية المكلّفة الملف اللبناني، حسمت المعلومات الواردة من باريس بأنّها لم تطاول أياً منهم. فالأقطاب الثلاثة ايمانويل بون وبرنارد ايمييه وجوزف بوريل ما زالوا على رأس المهمّة المكلّفين بها، وانّ لودريان حلّ محل الموفد السابق بيار دوكان، مع انّ مهمّته تقدّمت على اختصاص دوكان في مجالات الاقتصاد والنقد والمال، ليضيف اليها الجانب الديبلوماسي انسجاماً مع شخصية لودريان وقدراته في هذا المجال، بعدما سُمّي بـ «خبير الأزمات».
وإلى هذه المفارقة الفرنسية تتجّه الأنظار في الساعات المقبلة إلى رصد ردّات الفعل التي تركها القرار الرئاسي الفرنسي بتعيين لودريان في العواصم الأربع التي لبّت الدعوة إلى «لقاء باريس الخماسي» الذي جمع مسؤولين اميركيين وسعوديين وقطريين ومصريين، التقوا في السادس من شباط الماضي، في مسعى لمقاربة الأزمة اللبنانيةن وهو أمر لم يتبين بعد، في ظلّ صمت مطبق، طالما انّ أياً من هذه العواصم لم يعلن أي موقف منه بعد.
وإن كانت المصادر الديبلوماسية الفرنسية قد لفتت الى انّ ما حصل في باريس من تغييرات في مهمّة الفريق الفرنسي وشخصياته، يعدّ شأناً فرنسياً داخلياً، ولا يستدعي اي ردّ فعل من شركائها الدوليين الاربعة، فإنّ الحكم على مهمّة لودريان سيبقى رهناً بأي طرح فرنسي جديد قابل للتطبيق، وهو أمر لا يمكن حسمه من اليوم، لأنه مرتبط بالقدرات التي تمتلكها باريس، وما يمكن ان يكون مقدّراً للدور الفرنسي في لبنان وحدوده. وإلى تلك المرحلة ما على اللبنانيين سوى الانتظار.