طوني عيسى - الجمهورية
يراهن حلفاء دمشق على أنّ تطبيع علاقاتها مع العرب سيمنحها هامش المشاركة في صياغة تسوية لبنانية، على غرار الطائف أو الدوحة. فهل يمكن القول إنّ سوريا التي استعادت «مقاعدها» في الجامعة العربية ستستعيد «قواعدها» في لبنان، سياسياً على الأقل؟
منذ اللحظة الأولى لخروج سوريا في ربيع 2005، كان واضحاً أنّ الرئيس بشار الأسد وحلفاءه اللبنانيين يصرّون على «تصحيح الخطأ» الذي أوصلت إليه لحظة دولية- إقليمية معينة.
فالسوريون انسحبوا من لبنان في غمرة زلازل كانت تهزُّ العالم والشرق الأوسط على مدى سنوات، أبرزها انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، صدمة 11 أيلول ووصول جورج بوش إلى البيت الأبيض، حرب العراق وإزاحة الرئيس صدام حسين واغتيال الرئيس رفيق الحريري.
طبعاً، بعد الانسحاب، اعترف المسؤولون السوريون بارتكاب الكثير من الأخطاء والتجاوزات خلال فترة وجودهم العسكري في لبنان، لكنهم لم يقرّوا بخطأ «الرعاية» في ذاتها أو «الوصاية». وقد جاء الفشل الذريع الذي مُني به اللبنانيون في بناء دولة، بعد 2005، وأوصلهم إلى الانهيار في 2019، ليدعم ذرائع القائلين بعدم بلوغهم «سنّ الرشد»، على حدّ تعبير الرئيس الياس الهراوي ذات يوم.
عندما بدأ الأسد يواجه محاولات إسقاطه، في العام 2011، وتخلّى عنه غالبية العرب، ساد اعتقاد لدى كثيرين بأنّ هذه المحاولات ستنجح، وأنّ معادلات النفوذ في سوريا مقبلة على تغيير جذري. لكن إيران، بقوة «الحرس الثوري» و»حزب الله»، استطاعت تحقيق توازنٍ منعَ سقوط الأسد. وفي لحظة حرجة، تدخّل الروس في الحرب، في شكل مباشر وحاسم، وأنشأوا القواعد العسكرية، فبات سقوط الأسد أمراً مستحيلاً.
خسر خصوم الأسد رهانهم. واليوم، الجامعة العربية هي التي تعود إلى الأسد، وليس العكس. فالرجل لم يقدّم أي تنازل، لا في الداخل السوري لمصلحة المعارضة ولا على المستوى العربي، مقابل عودته إلى «الحضن العربي». وهو على وشك أن يتلقّى دعماً مالياً عربياً ضخماً سيستخدمه لإعادة البناء، مدعوماً من إيران وروسيا.
وعلى الأرجح، وفي محاولة للحفاظ على ماء الوجه، سيعلن الأسد لاحقاً التزامه تسوية سياسية داخلية تراعي مشاركة المعارضة. لكن هذا الالتزام سيبقى شكلياً كما كان دائماً. وفي الأساس، أي معارضة هي المقصودة؟ وأين هي؟ وما هي مقومات ممارستها للعمل السياسي؟
كذلك، راهن خصوم الأسد على انشقاق روسي- إيراني في سوريا يصيب الأسد بالإرباك. لكن هذا الرهان باء بالفشل أيضاً. فالروس والإيرانيون لم يختلفوا على الخيارات الاستراتيجية، لا في سوريا ولا في سواها.
وعندما يقف الروس متفرجين على الضربات الجوية الإسرائيلية لمواقع إيرانية في سوريا، فإنّهم يفعلون ذلك لأنّ من مقتضيات الدور الروسي إظهار حدّ من التوازن في معادلات القوى وفي مراعاة متطلبات إسرائيل الأمنية. والإيرانيون يتفهمون الموقف الروسي. وقد جاء الدعم الإيراني للروس في حرب أوكرانيا ليؤكّد عمق التحالف.
وفيما الأسد مرتاح إلى تموضعه بين موسكو وطهران، يحفظ موقعه في الاتفاق الإيراني- السعودي. وعلى الأرجح، في ظلّ التغطية العربية المستعادة إليه، سيضطلع الأسد بأدوار معينة في الأزمات التي اعتادت دمشق أن تتداخل فيها، وأولها لبنان.
طبعاً، في نسخة 2023، لا يمكن أن يكون تدخّل دمشق كما في النسخة التي انطوت في العام 2005: لا انتشار لجيشها، ولا وصاية لها على السلطة، ولا تدخّلات مباشرة في كل شاردة وواردة.
وأساساً، لقد نما اليوم دور «حزب الله» كثيراً، أي دور إيران المباشر. ولم يعد الأسد في حاجة إلى الإمساك بالأمور اللبنانية مباشرة، كما كان من قبل. و»الحزب» الذي رعت دمشق نشوءه ونموَّه بات اليوم يوفّر عليها عناء التفرُّغ للوضع اللبناني، واستنفاد الجهود التي يحتاج إليها الأسد بقوةٍ في الداخل السوري.
ومن الواضح أنّ لجنة باريس الخماسية هي التي ستقرّر اتجاهات التسوية في لبنان، بعد ضمّ إيران إلى الطاولة، وسيكون للأميركيين رأي وازنٌ فيها.
والموقف الأميركي المعلن حتى الآن هو الآتي: رفض الاعتراف بنفوذ إيران الإقليمي، ورفض تعويم الأسد. ولكن، ثمة مَن يعتقد أنّ البراغماتية الأميركية تسمح بقبول خيارات أخرى عند الحاجة. وللتذكير، رعى الأميركيون في تشرين الأول الفائت اتفاق ترسيم للحدود بين «حزب الله» وإسرائيل. ويعتقد البعض أنّهم قد يُليّنون موقفهم تجاه الأسد ضمن صفقة معينة، ما دامت محاولات إسقاطه قد باتت أمراً من الماضي.
ضمن صفقة معينة، قد يقبل العرب بغالبيتهم، والأميركيون والفرنسيون، بأن يتعاطوا مع الأسد في لبنان، لا مع إيران. وهذا الأمر ليس جديداً، إذ اختبروه طويلاً، ولاسيما في فترة الطائف، العام 1989، وما بعده، عندما منحوا نظامه «كارت بلانش» لإدارة لبنان، تحت سقف معين، ولم يسجّلوا عليه مآخذ مُهمَّة خلال أدائه هذه المَهمَّة.
ولذلك، في النسخة الجديدة من التسوية اللبنانية، لن يكون مستبعداً إحياء الصفقة القديمة بأشكال أخرى، ما دام اللبنانيون قد فشلوا تماماً في إدارة شؤونهم بأنفسهم، من تعيين موظف إلى انتخاب رئيس. وعلى الأرجح، هذه هي النقطة التي ستدور حولها محركات التفاوض الإقليمية والدولية في المرحلة المقبلة.