رشيد درباس: خسرتُ نيابة إفتراضية وربحتُ صداقة أبو بهاء
رشيد درباس: خسرتُ نيابة إفتراضية وربحتُ صداقة أبو بهاء

أخبار البلد - Saturday, May 13, 2023 7:14:00 AM

نوال نصر 

نداء الوطن 

هو، في الولادة، إبن بلدة دير يعقوب العكارية. وهو، في الإنتماء، طرابلسي الهوى. وهو، في الطباع، مرح وودود وشاعر. وهو، في الحياة، قومي عربي ونقيب سابق للمحامين في الشمال ووزير سابق للشؤون الإجتماعية وصديق جان عبيد جداً جداً وثلاثة لن يكررها ثانية: وزير مرة ونقيب مرة وزوج مرة. وهو بين خمسة أشخاص، فقط لا غير، يناديهم سعد الحريري: عمي. فهل الذكريات تكون طيّعة أكثر في بال شاعر؟ سألناه ذلك في بداية الحديث فأجاب ببيت شعر: إنني لا أكتب التاريخ لكني ربيب المرحلة عشت فيها وهلكت مني عقود في طريق الجلجلة.


«ثمانية عقود ونيّف، عشتها في صخب كبير، لكني لم أزل أحاول أن أعيش فتوة هادئة مع الذكريات والآمال». بخلاصة العمر هذه التي كتبها لنا في نهاية حوارنا نبدأ. حياته ملأى بالذكريات. هو روى بعضها في كتابه «طفولتي شعر لا يشيب» ويقول: مثل عادته، إتصل بي ذات أحد، بعد أن إنتهيت من تقديم فقرتي الإذاعية الأسبوعية «ناقوس الأحد»، رمزي نجار وقال لي: يا رشيد أكتب مذكراتك. أجبته: وماذا فيها من تأثير لأرويها؟ عدتُ واستطردت: إذا كتبت فستكون كتابتي بلغة الشعر. أجابني: وإذا فعلت ذلك فسأقدم كتابك بقلمي. مرّ أحدان لم يتصل رمزي. وفي الأسبوع الذي تلا عرفت أنه توفي. إتصلتُ بشقيقه مروان وأخبرته ما دار بيننا من حديث فقال لي: أنا سأنفذ الوعد. وكتب مقدمة كتابي وحين قرأتها إمتلكتُ جرأة توزيع الكتاب. هو عرف في مقدمته كيف يُخرج ذكرياتي من الخاص الى العام. رحم الله الشقيقين رمزي ومروان نجار.خيبات...خيبات

الأيام تركض بسرعة. مثل البارحة ولد رشيد درباس وكان يلعب في فيء الصنوبر في بلدة دير يعقوب. مرّت الأعوام سريعة. 82 عاماً كأنها أمس الذي عبر، مليئة بالخيبات. نعم رشيد درباس المشبّع بالمرح مليء بالخيبات. هو يمارس نقداً ذاتياً صارماً في كل مرة يتذكر فيها «كم كان وأصحابه أشبه بالعميان» ويقول «أردنا أن نرى أوسع وأن ننال من يد مجزوزة الأصابع سماء أمنياتنا لكننا نلنا كل الخيبات».

قبل أن يُخبرنا عن خيبات عمره ينظر من النافذة، كمن يبحث عن ضالة، عن صنوبر وزيتون ربما، ويستهلّ الحديث عن عين يعقوب: «مكثتُ فيها نحو ست أو سبع سنوات. هي قرية وديعة فيها غابات صنوبر برّي. والدتي طرابلسية. وأنا وشقيقي الأصغر خالد لم نزر طبيباً في طفولتنا لأن هواء الصنوبر كان العلاج والدواء. كانت طفولتنا جميلة». هل ما زال يزور اليوم عين يعقوب؟ أفعل ذلك فقط حين يموت أحد الأقارب. لم يعد لدينا منزل في البلدة. كان جدي، من جهة أبي، ذكياً لكن غير متعلم. كان ينتظر والدي مساء، حين يعود من عمله في ميناء طرابلس، ليقرأ له قصة عنترة. وكان يطلب من والدي توفيق أن يغني له شعر عنترة بصوتِهِ الجميل. ومن يومها دخل الشعر قلبي. وحين نزلنا الى طرابلس ودخلنا ثانوية مار الياس في الميناء- وهي أرثوذكسية ومن أساتذتها كان المطران جورج خضر والمطران بولس بندلي- شعرت أنا وشقيقي بالرعب. كنا أشبه بقرويّين، لهجتنا تختلف عن المجتمع الجديد، ولدينا إحساس بأن هناك من يريد أن يأكلنا. صدقيني لم أفهم كيف وضعوني في صف التاسع إبتدائي وأنا الآتي من مدرسة في قرية بزبينا أشبه «بالزرابة». كان هناك في مدرستنا الجديدة عقاب ومسطرة وفلق. ومن يُخطئ كان يعاقبه الأستاذ مكاريوس موسى بأن يحفظ من شعر فيكتور هيغو ولامارتين أو من ألفية إبن مالك. هناك، في المدرسة تأثرت بأستاذي كامل درويش الذي يمتلك الإلقاء الساحر وحين يتكلم نشعر وكأننا نكاد نطير من دون حتى أن نفهم كل ما يقول. مرّت الأيام، أصبحت أكتب الشعر وأطلب منه أن يقرأه فيقول لي: الله الله يا رشيد يا شاعر. كان الفرح الكبير يغمرني.

 

جميل أن يكون النقابي والسياسي شاعراً. لكن، على ما بدا، أن رشيد درباس الصاعد - في أول الدرب - في الشعر نشفت الحروف في حلقه والسبب؟ يجيب «يوم قرأت شاكر السياب في ديوان أنشودة المطر: «قطرة فقطرة تذوب في المطر» قررت أن أتوقف عن كتابة الشعر ليقيني بأنني لن أستطيع بلوغ مستواه. كنت قد بلغت حينها سن العشرين. لكن، يوم غادرت الى مصر رأيت فتاة جميلة جداً، بعينين يختلط فيهما الأزرق بالأخضر، فقلت لها: عيناك شط أفريقي. وبعد نحو عشرين عاماً، إستيقظت فجراً من النوم، وأنا أتذكر ذاك القول وأكملته لا أعرف لا كيف ولا لماذا: عيناك شط افريقي، مطر ينهال و... أصبح الغزل قصيدة. ويومها عدتُ الى الشعر وكتبتُ كتابي الأول: همزة الوصل. وأنا لا أعتبر نفسي حتى اللحظة شاعراً بل هاوياً. كل ما فعلته أنني كتبتُ ما يعبّر عني كثيراً كثيراً. هناك أشياء كثيرة حدثت في حياتي تبدو غريبة غير أنني أثق بشيء يسمونه CUMU يجعل الأمور تتراكم وتتراكم وتخلق شيئاً ما. حجر مع حجر يساويان حجرين لكن كم من الحجارة تشكّل حائطاً. الإنسان بطبعه غريب بدليل: لماذا تركب الرعونة على صهوة الشباب وتتكئ الحكمة على عصا الشيخوخة؟».حدّث نفسه فقال....

هو يكلّم نفسه كثيراً. يحب ذلك. فماذا آخر ما قاله لنفسِهِ عن تجارب العمر؟ يجيب «مررتُ بتجارب كثيرة وبظروف صعبة جداً. وأنا (يعترف) نادم من قلبي. وأريد أن أعتذر من طرفين أحدهما والدي الذي مات وقُبر ولم أستطع أن أمشي وراء نعشه بسبب ظروف سياسية ودخول قوات الردع السورية الى لبنان. كنت «هربان» في قبرص. وأريد الإعتذار من أولادي لأنني أهملتهم ذات يوم من أجل ما تبيّن لي لاحقاً أنه خديعة».

رشيد درباس، النقابي والسياسي اللبناني تعرّض الى خديعة، تحدث عنها: «آمنتُ في مراهقتي بالقومية العربية لكني تأكدت لاحقاً أنها فكرة عظيمة تولاها أشرار. حزب البعث العربي الإشتراكي أسسه ميشال عفلق وصلاح البيطار، لكن رفاق الأول إنقلبوا عليه ورفاق الثاني قتلوه. حركة القوميين العرب التي أسسها جورج حبش ومحسن إبراهيم والمعلم الملهم قسطنطين زريق يوم حدثت نكبة فلسطين عادت وانقسمت على نفسها. إنقسم القوميون العرب على بعضهم وقتلوا بعضهم وضحوا ببعضهم. واكتشفت امرين: ما عشناه كان خديعة وجريمة إنسانية. إكتشفت بعد 82 عاما أن فكرة حرق المراحل تشبه فعل حرق الطبخة. قال كارل ماركس عن فكرة الإشتراكية إنها تصبح جاهزة في البلاد المتقدمة صناعياً غير ان الثورة الإشتراكية صنعت في بلاد متخلفة حتى زراعياً. كريم مروه قال ذات مرة: المنظومة الإشتراكية مثل قالب شمع كبير جداً في داخله نسيس لهب. سياسة حرق المراحل هي أول خديعة إقترفوها ولا تعبّر عن رصانة فكرية».هو خُدع مرة ومرتين. ماذا عن الخديعة الكبرى؟ يجيب: أعترف أن حرب 1967 كانت الخيبة الكبرى لاننا لم نصدق أنه في خلال ستة أيام ستصبح إسرائيل في قلب القطر المصري وعلى شفا الوصول الى دمشق. وهذا كان دليلاً على ضعف البنية السياسية لذلك فكرنا بتغيير البنية السياسية واعتمدنا أيضاً سياسة حرق المراحل والتجأنا الى الحرب الشعبية لأننا كنا مفتونين بما يجري في فييتنام غير مدركين أن لكل دولة ظروفها. حدثت المقاومة الفلسطينية وحدث أيلول الأسود وفتحوا كل الطرق ليأتوا بالفلسطينيين الى لبنان. وهناك تعبير قاله عبد الحليم خدام يوماً: يجري تجميع الفلسطينيين كما يتم تجميع السمك في بركة بانتظار ضربة ديناميت. وهناك تعبير إستخدمه محسن إبراهيم ثم ندم عليه: الثورة الفلسطينية والقوى التقدمية الرافعة التاريخية لبرنامج المرحلة. تأكدنا أنهم صنعوا برنامجهم الخاص الذي أدى الى خراب الدولة وحدوث العصبيات. ويستطرد: كل الناس إرتكبت الخطايا الكبرى. وهذا ما دعاني الى إعادة نظر ونقد شخصي.

هل يعلن رشيد درباس الذي آمن بالقومية العربية ندمه على انتمائه؟ يجيب: لا، لن انكر القومية العربية. هذا انتمائي. إنه جلدي. لكن، ندمت على انخراطي السياسي. وانتقدتُ نفسي لأنني أعتقد اننا فرطنا ببلد ملموس وحقيقي وشارك في شرعة حقوق الإنسان وفي تأسيس الجامعة العربية والأمم المتحدة لقاء البحث عن دولة أخرى لفلسطين. أنا مع أن تكون لفلسطين دولة لكني أعترف أننا أخطأنا في المغامرة بأساسات لبنان.

هناك كثير من اللبنانيين أحبوا فلسطين أكثر من لبنان، ماذا عن رشيد درباس؟ يجيب: لا، لم نحبها أكثر لكن كانت فلسطين عنواناً لهزيمة العروبة الحقيقية أو نصرها المأمول. النصر لم يحدث. وصلنا الى أوسلو وكلنا نعلم ماذا يحدث في أوسلو. وقتل ياسر عرفات في قلب رام الله.

خُدع درباس. هو من القلائل الذين يعترفون بأخطاء ويمارسون النقد القاسي. نعود معه الى الجامعة والمحاماة والسياسة. يقول: سافرت الى مصر لأتعلم ما أراده والدي: الزراعة. كانت اللغة الثانية التي أعرفها الفرنسية وكلية الزراعة موجودة فقط في الجامعة الأميركية لذلك غادرت الى مصر. ويستطرد: لو تعرفين من كان زملائي يومها؟ كان حاكم الشارقة الأمير سلطان وعادل إمام وصلاح السعدني. لكني لم استطع أن أتابع الدروس هناك. هل تتصورين أن المعادلات والصيغ كانت تعطى بالعربية؟ S24H2 كانت بالعربية: ك (كبريت) أ (أوكسيجين) أربعة إثنين. لم تكن معرفة ذلك سهلا. إنتقلت الى كلية الحقوق دون أن أخبر والدي ووالدتي. درست المحاماة وحضرت المسرحيات وقصدت صالون نجيب محفوظ. وانتقلت لاحقاً الى لبنان ونلت إختصاصا في القانون اللبناني في الجامعة اليسوعية.

 

خصب الذكريات ويتذكر بين فينة وأخرى قصة جميلة: شجعوني ذات يوم أن أصبح قاضياً. وكان ميلي يسارياً. خضعت في البداية الى مقابلة شفهية سألني الرئيس الأول فأجبت بشكل صحيح لكني رسبت لأنهم إعتمدوا على تقرير الأمن العام الذي يصلهم عن كل مرشح. هناك شاب آخر اسمه محمد توفيق درباس - لا أعرفه - رسب لأنهم ظنوه شقيقي. بدأت الحرب اللبنانية «وفي وقتٍ كان يفترض بنا أن نصعد ونتطور ونبني أنفسنا جمدنا في مطارحنا» ويتذكر: «دخلت قوات الردع السورية فنصحوني يومها أن لا أنام في البيت. وذات يوم كنت جالساً في مقهى فسمعت ضرب رصاص لامس رأسي. أحدهم أطلق النار على يد شخص كان يريد أن يطلق رصاصة في دماغي». تتكرر تسمية الفرقة الـ 17 الفلسطينية على لسان رشيد درباس. لكل مرحلة تسمياتها. سافر بعدها الى قبرص ويقول: «بعد أيام قليلة من مغادرتي لحقني صديق لي ومعه أولادي وزوجتي هبة ناقلين لي خبرا صعقني: والدي توفي. لم يكن يشكو شيئاً. رحيله المفاجئ يستمر منذ العام 1977 جرحاً في داخلي لم يندمل.

يقلب بين أرشيف الصور. يبتسم حيناً. يعبس حيناً آخر. ويروي قصص بعضها أحياناً. هناك صورة تجمع بينه واقفاً وراء كل من نجيب ميقاتي وسعد الحريري وهم يضحكون كثيراً والى جانبهم كان ميشال عون ينظر في طبقه. فما سرّ كل هذا الضحك؟ يجيب درباس: «هذه الصورة خلال عشاء دعا إليه السفير السعودي السابق علي عواض عسيري. يومها إقتربت من نجيب ميقاتي وسعد الحريري وقلت لهما: أنتما ستكونان وجبة الرئيس ميشال عون التالية. يضحك مجدداً وهو يخبرنا ويتابع التعليق على الصور: هذا أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة. هنا ألقي انا كلمة في الأمم المتحدة. وهذه الصورة في الأردن. وهذا أصبح رئيسا للأكوادور وزارني قبل ذلك في وزارة الشؤون الإجتماعية وهو مقعد... صحّ من قال أن الصور مفاتيح نلتقطها لتفتح لنا أبواباً في الذاكرة قد أغلقها النسيان.

 

النقيب

إنتخب نقيباً لمحامي الشمال. ماذا في حيثيات الإنتخابات؟ من دعمه ومن خاصمه؟ يجيب: «أنا محامٍ مجتهد لكن كل القوى السياسية وقفت ضدي. وأتذكر أن غازي كنعان يومها إتصل بي وقال لي: أيعقل أن أقرأ في الصحف أنك مرشح لمركز نقيب المحامين في الشمال؟ أليس لي أي دور في ذلك؟ شكرته وقلت له: لا. أجابني رحّ طبّق (...) لينتخبك (تمنى درباس عدم ذكر الإسم). ويتابع: المفارقة أن القوى الإسلامية كانت ضدي. وسليمان فرنجيه كان أول من ناداني: نقيب. وربحتُ يومها بفارق ضئيل. حدث ذلك عام 1998. وحين قصدت والدتي لأنال بركتها رأيتها تبكي وتقول لي: ليت والدك ما زال حياً ليرى نجاحك.

في ذاك الوقت الذي انتُخب هو فيه نقيباً إنتخب إميل لحود رئيساً للجمهورية. وحدثت قصّة يرويها درباس: «كان القاضي نصري لحود مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. أرسل وراء أحد المحامين، ذهب إليه، فقرر توقيفه. إتصلت به وسألته: هل أخذت إذنا بذلك؟ أجابني: لا أحتاج الى إذن. أجبته: بلى، بحسب المواد كذا وكذا وكذا تحتاج الى إذن. إنتفض قائلا: شو بدّك تعلمني القانون يا رشيد؟ أجبته: وهل تعتقد يا نصري أنني نقيب لحامين لا نقيب محامين؟ إتصلت بكل المراجع المحلية والدولية وأخبرتهم عن إفتراء المفوض الحكومي على نقيب المحامين. وفي النهاية رضخ. ويستطرد مبتسماً: إميل لحود (شقيق نصري) لم يعطنا موعداً للقيام بزيارة لتهنئته بوصوله الى سدة الرئاسة. قد يكون غضب مما حدث مع شقيقه.

نقيب المحامين (السابق) كيف أصبح وزيراً (سابقا)؟ يجيب: يوم انتخبت نقيباً وعدتُ مساء الى البيت، وجدت زوجتي تناديني وتلحّ: عجّل رشيد عجّل. الرئيس الياس الهراوي على الهاتف. هنأني وقال لي: أنتظرك غداً صباحاً. في اليوم التالي زرته في المستشفى بعدما تعرض الى جلطة. ويوم فزتُ بمنصب نقيب إتصل بي أيضا رفيق الحريري من باريس. سألني عن التفاصيل؟ كيف كانت الإنتخابات؟ ما هو عدد الأصوات التي حصلت عليها؟ من انتخبني؟ من لم ينتخبني؟...

 

خسارة وربح

هل كان هذا الإتصال، في عام 1998، هو الأول الذي حصل بين الرجلين؟

يقول رشيد درباس: «قبل ذلك قال لي عمر مسقاوي (الذي تدربتُ في مكتبه) أن رفيق الحريري يريد أن يراني فور إنتهاء جلسة مجلس الوزراء. تعرفتُ إليه. كان آخر يوم يسبق تقديم أوراق الترشح الى الإنتخابات النيابية عام 1996. سألني: لماذا لم تترشح الى الإنتخابات؟ قلت له: أعتقد أن لا نصيب لي بالفوز، أنت معك الإخوان المسلمون وهم لا يطيقونني. ردّ: ستترشح. قلت له: ابو بهاء أنا سبق واعلنت عزوفي عن الترشح وأوراقي غير جاهزة. أجابني: نحن حضرنا أوراقك وهي جاهزة و»كرمالي» ترشح. أخذني الحياء وقدمت الأوراق. وفي اليوم الثاني لم تذكر الصحف ذلك لأن هناك تمنياً من مدير الداخلية بأن لا يعرف أحد ذلك في حينه. ويوم حصل الإجتماع لإعلان «الليسته» سأل الجميع من هو الإسم الخامس؟ فقيل لهم: رشيد درباس. إنتفض الجميع فقال لهم الرئيس الحريري: رشيد أو لن يشارك أحد منكم في الإنتخابات. لكنه، في النهاية، عاد ورضخ. واخبرني سمير الجسر وأحمد كرامي لاحقاً بكل ما حصل. أخبرت صديقي واخي وحبيب قلبي جان عبيد بما حدث، فاتصل برفيق الحريري وقال له: أبو بهاء رشيد يريد أن يتكلم معك. كلمته وقلت له: صحيح أنني خسرت مقعداً نيابياً إفتراضياً لكنني ربحت صداقة حقيقية.لم يصبح رشيد درباس نائباً. واستمرّ الشعر ملهماً ومتنفساً وراحة له. أما الوزارة فلها حكاية أخرى تحدث عنها: «لاحقا، تمّ تشكيل حكومة وعُيّن سمير الجسر وزيراً فيها. ذهبت على رأس وفد نقابي من محامي طرابلس لنشكر الرئيس الحريري على ذلك. نظر إليّ وسألني: متى ستصبح نقيباً سابقاً؟ قلت له: أسبوعان. فهمت حينها أنه وضعني في رأسه. وأخبرني فؤاد السنيورة لاحقاً أنه كان عائدا مع الرئيس الحريري في الطائرة، وجلسا يبحثان في أسماء الوزراء فقال رفيق لفؤاد: ضع رشيد درباس في بالك. محبة الرئيس رفيق الحريري أسرتني، وأصبح هناك ودّ كبير بيننا. وذات يوم، ذهبت مع الفضل شلق لدعوته الى حفل زفاف ولدينا. أكد مجيئه وقال لي: يا رشيد أنا لا أريد أن أكون رئيس حكومة لكنني أريد أن أشارك في الإنتخابات في كل مكان. سأبقى حاضراً ولا يمكنهم أن يفعلوا سوى أن يقتلوني. فليفعلوا، يكون عمري قد إنتهى. ثم عاد ونظر إليّ وقال: قولك بيسترجوا يقتلوني؟ حصل ذلك في شهر تشرين الثاني عام 2004. قتلوه.

تعرّف رشيد درباس لاحقاً الى سعد الحريري ويقول: هو لطيف وودود. ويستطرد: لاحقاً تمّ تكليف صديقي تمام سلام- الذي تعرفت اليه في مصر- بتشكيل الحكومة. إجتمعنا سوياً وقال إنه سيسميني وزيرا للداخلية. لم اتوقع أن يكون وراء هذه التسمية الرئيس سعد الحريري. جماعة سعد لم يستحبوا الفكرة وسألوا: من أين أتى هذا؟ إتصلت بسعد وقلت له: دولة الرئيس أنا لم أطلب منك شيئاً. أجابني: وزارة الداخلية أتت في حصة تيار المستقبل وأنت لست في التيار لهذا إنتفضوا عليك. خرجت يومها وقلت أمام الإعلام: رشحتني الصحف وأقالتني الصحف. كان ذلك يوم خميس. ويوم الجمعة مساء إتصل بي طلال سلمان وقال لي: مرحبا معالي وزير الداخلية. قلت له: حلّ عني. وليلاً، إتصل بي تمام سلام وقال لي: رشيد، ستتشكل الحكومة خلال ساعات واخترت لك حقيبة وزارة العدل. فرحت بذلك وأجبته: وأنا أتعهد لك بأنني سأجعلها حديقة الجمهورية خلال خمسة أشهر. عند الساعة السادسة من صباح اليوم التالي، إتصل بي سعد الحريري وقال لي: أشرف (ريفي) ليس راضياً أبداً. هو يريد الداخلية واتفق أن يُعطى الشؤون الإجتماعية. قلت له: وما دخلي بذلك؟ ذهبت الى منزل ريفي وأنا ارتدي الملابس الرياضية. كان يعتبر تسميته للشؤون الإجتماعية إهانة له. وعبثاً حاولت إقناعه بأنها وزارة لها علاقة بالناس والفقراء واللاجئين و... كان جوابه واحد: لا، لن أقبل بها. كان يريد الإتصالات. حينها سألته: هل تريد العدل؟ أجاب: نعم. إتصلت بسعد الحريري الموجود في باريس وقلت له: حلّت المشكلة. أعطيت أشرف ريفي حقيبة وزارة العدل. أجابني: وستكون لك حقيبة الشؤون الإجتماعية. قلت له: طبعا لا. لا أعرفها ولا أحب الفشل. قال لي: خلص يا رشيد. إنهم ينتظرونك ليأخذوا الصورة التذكارية. وافقت على مضض وحين وصلت الى القصر الجمهوري كانت الصورة قد إلتقطت واستعانوا بتقنية الفوتوشوب لتركيب صورتي. وأتذكر أنني حين دخلت الى الحكومة إتصل بي نواف سلام وقال لي: رشيد لا تستهِن بهذه الوزارة. إنها الأخطر في لبنان. وأتذكر أن نينيت كيلي، ممثلة المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان إستدرجتني مرة الى معرض طرابلس وقالت أمام الكاميرات: بكل فخر أقدم لك اللاجئ السوري رقم مليون. شعرت بالرعب. وقلت لها: أتمنى أن يكون الرقم واحد في العودة.

الأصدقاء

صديق رشيد درباس الحميم هو جان عبيد ويخبر «لم أروض نفسي حتى اللحظة أنه مات. كنا نتكلم يومياً حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. لا تسأليني ماذا نتكلم. كل ما أعرفه ان الكلام بيننا لم يكن ينتهي. وأعترف أنني كنت نزقاً، أتوتر بسرعة، لكن بفضل صديقي أصبحت هادئاً متروياً أغفر وأسامح. يضيف: لدي في السياسة أصدقاء عديدون. الرئيس فؤاد السنيورة أحدهم. تمام (سلام) صديقي أيضاً. وهناك سعد (الحريري) أحبه جداً جداً جداً. وأتذكر أنني إتصلت به خلال مقابلة له مع مريم البسام، على شاشة « الجديد»، وقلت له: أرجوك اترك المقابلة حالاً. وفي اليوم التالي وكان يوم أحد قدمت «ناقوساً» ثقيلاً عنه (يقصد اسم برنامجه). أزعجه ذلك. إتصل بي فريد مكاري وقال لي: لو كنت مكان سعد لوضعت ناقوسك منبهاً يومياً. إتصلتُ مرتين أو ثلاث بالشيخ سعد فلم يجبني. إتصل بي مدير بيت الوسط وأخبرني أن سعد قال له: «حزنت كثيراً لما فعله بي رشيد الذي هو واحد من خمسة اناديهم عمي». لاحقاً عاد واتصل بي وقال: أبو حسام في بيت الوسط و»على باله» حلاوة بالجبن. أرسلتها له من طرابلس. وفي اليوم التالي إتصل بي سعد وقال: شكراً على الحلاوة بالجبن. أجبته: إنها من أجل التعويض عن مرارة اللسان.

ذكريات رشيد درباس لا تنضب. نسأله: هل نجيب ميقاتي صديق لك أيضا؟ يجيب ضاحكاً: إنها صداقة على مناكفة دائمة. لكني أراه الآن أهم شخص في الدولة اللبنانية. نجيب لا يشبه تمّام. الأخير هو عنوان للطبقة السياسية المحافظة ويملك أرستقراطية الأداء والدقة المتناهية في العمل. أما حسان دياب فلم اكن أعرفه قبل أن يتصل بي لتوكيلي قضيته.

نصغي الى رشيد درباس وهو «يرافع» عن حسان دياب أمامنا. نسأله عن أولاده؟ هم ثلاثة: توفيق هو مهندس إتصالات وكومبيوتر يعمل في دبي. رولا وهي محامية كانت تعمل في المحكمة الدولية في لاهاي الخاصة بقضية إغتيال رفيق الحريري وهي لا تزال حتى اليوم في لاهاي. رولا فنانة أيضا ترسم وكل رسومات كتبي بريشتها. أما إبنتي الصغيرة روى فدرست في كلية الزراعة في الجامعة الأميركية وهي رئيسة قسم البيئة في دار الهندسة. زوجها هو علي إبن الفضل شلق. هنا يبتسم درباس ليخبر كيف طلب علي يد رولا: حفظ قصيدة المتنبي «أحاد أم سداس في أحاد» ألقاها أمامي فوافقت. ولدى رشيد خمسة أحفاد: فضل وزياد وتيما ورشيد ولارا.

إنتهى الحوار. الذكريات لا. وها هو رشيد درباس يهم بالعودة الى طرابلس، الى أفقر مدينة في المنطقة... حيث أغنى الأغنياء أيضا في المنطقة... فماذا يقول لطرابلس وأهل طرابلس؟ يجيب: «أحييهم وأقول لهم طرابلس ليست بحاجة أبداً الى أموال الأغنياء بل الى إحياء معالمها الكثيرة. فلتطلق المنطقة الإقتصادية الخاصة في طرابلس وليتركوا المدينة وشأنها.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني