نداء الوطن
سيلفانا أبي رميا
في بلد أصبح أكثر من ثمانين في المئة من سكانه تحت خط الفقر، وفقد فيه عشرات الآلاف وظائفهم، بات اللبنانيون بمعظمهم عاجزين عن تأمين الحدّ الأدنى من احتياجاتهم الرئيسية وحُرموا رفاهية السلع الكمالية. وفي وقتٍ ارتفعت أسعار الكتب بشكل جنوني، تشكّل المكتبات العامة متنفساً وبديلاً فعالاً للقرّاء، حيث ازداد الإقبال عليها بمعدلات قياسية، خصوصاً وأنّ الكتب الرقمية فشلت في هزيمة تلك الورقية، الّا أنها تكافح اليوم لإعادة وصل الشباب اللبناني بالكتاب.
بحسب الإحصاءات الأخيرة لوزارة الثقافة يوجد نحو 120 مكتبة عامة موزّعة على مختلف الأراضي اللبنانية، ولكن مع الوضع الاقتصادي الذي نشهده منذ ثلاث سنوات تأثر الكثير منها وربما أقفل بعضها لصعوبة الاستمرار كونها تُدار من قبل البلديات العاجزة تقريباً مع انهيار العملة.إحصاءات واعدة
في العام 1997، وُلدت جمعية "السبيل"، ووقّعت شراكةً مع بلدية بيروت لإنشاء وإدارة مكتبات عامة داخل العاصمة، وفي لقاء أجرته "نداء الوطن" مع مدير الجمعية التنفيذي علي صباغ أخبرنا أن "السبيل" تدير اليوم شؤون ثلاث مكتبات وهي مكتبة "الباشورة" الأكبر في بيروت، "الجعيتاوي" في حديقة اليسوعية، ومكتبة "مونو" في الأشرفية. وقال إنّ "الخدمات المقدّمة فيها مجانية بالكامل"، مؤكداً أنّها اعتمدت نظام الأرشيف الرقمي حيث يمكن للأشخاص الاطلاع على الكتب الموجودة عبر الانترنت، ما يسهّل عملية حجز وطلب الكتاب من دون الحاجة إلى التوجه إلى المكتبة.
صباغ الذي أعاد إلينا الأمل في عودة أمجاد لبنان الثقافية، تابع حديثه قائلاً: "عاما 2020 و2021 كانا الأسوأ من حيث الإقبال، إلا أن 2022 أعاد للمكتبات زخمها وعُدنا لرؤية الناس تتوافد إليها وكأننا على مشارف ثورة ثقافية، ممّا دفعنا إلى تأمين الكهرباء والإنترنت السريع"، مضيفاً: "كشفت الإحصاءات التي أجريناها العام المنصرم عن تزايد كبير في أعداد الزوار حيث لمسنا أرقاماً قياسية لم نصل إليها أبداً حتى قبل الأزمة. وارتفعت نسبة المشاركة في النشاطات عن الـ8000 شخص، كما وطلبات استعارة الكتب لتلامس الـ31 ألف كتاب في العام 2022 في بيروت وحدها، وهو إنجاز تاريخي".
وعن سبب هذا الإقبال أكد صباغ أن "الوضع صَعّب على اللبنانيين شراء الكتب التي لامس أدنى سعر لها المليون ليرة لبنانية، فبات هؤلاء يقصدون المكتبات العامة"، مردفاً: "على الاثر، زدنا ساعات الدوام (من 7 صباحاً حتى 7 مساءً) كما لجأنا إلى فتح المكتبات أيام الأحاد".
في المقابل، تحاول "السبيل" تزويد هذه المكتبات بعددٍ من الكتب الإلكترونية، إلا أن أسعارها باهظة وتكلفة تأمينها واشتراكاتها مرتفعة، وهو ما ساعد على استمرارية الكتب الورقية والمكتبات العامة، بحسب صباغ الذي قال إنّ "الإصدارات العربية ما زالت غائبة عن النسخة الإلكترونية بشكل كبير، ما سجّل هزيمة للقطاع الرقمي خصوصاً أن بعض الكتب من الصعب قراءتها إلكترونياً ولا سيما كتب الأطفال والروايات". وختم: "أثبتت الإحصاءات الأخيرة في العالم العربي والعالم على حد سواء أنّ الكتب الإلكترونية لم تؤثر على مكانة الكتب الورقية حيث وجدت الدراسات أن الأخيرة تخلق علاقة شخصية وحميمة بينها وبين القارئ".
250 نشاطاً داخل المكتبات سنوياً
لطالما كانت المكتبات العامة مكاناً يلجأ إليه محبّو القراءة، إلا أننا بتنا ننظر إليها اليوم كمراكز ثقافية، اذ يسعى القيّمون عليها كجمعية "السبيل" إلى تزيينها بنشاطات ثقافية تجذب المزيد من الناس. وأشار صبّاغ الى أن "هذه النشاطات تتخطى الـ250 كل عام وتتوزع بين حلقات الحوار بمختلف اللغات وليلة المطالعة (مرّة كل سنة وبثلاث لغات) وقراءة القصص (ساعة أسبوعية بالتعاون مع حكواتي ومحترفين) ومسابقات سنوية باللغة العربية وورش عمل ومحترفات إبداعية وبرنامج التدريب على المناظرة ولقاءات مع الكتّاب حول آخر إصداراتهم و"نادي السينما" الذي يعرض الإنتاج المحلي وتليه حلقات نقاش مع المخرج نفسه.
كذلك، أطلقت "السبيل" العام 2008 مكتبات متنقّلة هدفها زيارة المدارس الرسمية في لبنان التي تفتقر إلى المكتبات في حرمها.
جولة بين المكتبات
بعيداً عن الكتب الرقمية والأجواء الإلكترونية التي فشلت في الاستيلاء على العالم الورقي ومقرات المكتبات التي اعتدناها منذ الصغر، وبهدف الاطلاع أكثر على حركة الرواد ولمس الواقع خارج بيروت، كانت لنا جولة على عدد من المكتبات العامة لتشكّل "المكتبة الوطنية" في بعقلين محطتنا الأولى.
تحتضن البلدة في قضاء الشوف أكبر مكتبة في لبنان وتضم ما يزيد عن الـ200 ألف كتاب والـ300 ألف مطبوعة، وتعود إلى الحقبة العثمانية، عندما كانت قصراً تمّ تشييده في عهد السلطان عبد الحميد الثاني العام 1897، ثم تحوّلت عبر السنين محكمة ثم مركزاً للبلدية فسجناً، قبل أن يتم ترميمها وتحويلها إلى مكتبة بطلبٍ من سكان البلدة.
وأكد مدير المكتبة غازي صعب أنها تشهد تصاعداً غير مسبوق منذ العام 2021 في كثافة الزيارات خصوصاً من الفئة الشبابية التي تشكّل 65 في المئة من روّادها حالياً. وقال: "شهدنا استعارة 26 ألف كتاب العام 2021 و22 ألفاً عام 2022، والأرقام هذا العام إلى ارتفاع".
وأشار إلى أن المكتبة تعتمد نظام إعارة خارجية يسمح لأي شخص كان من مختلف أنحاء لبنان باستعارة الكتاب بشكل مجاني لمدة 15 يوماً قابلة للتجديد، موضحاً أنه "بات للمكتبة الوطنية أخيراً مسرح يسمح لها باستقبال نشاطات يعود ريعها لصيانة المبنى والكتب وتأمين حاجياتها وإنارتها. وها هي تثابر رغم الأزمة الحالية على المضي قدماً في رسالتها حيث تخطى عدد نشاطاتها هذا العام الـ245 نشاطاً من توقيع وكتب وورش عمل وغيرها. كذلك، تحفل أجندتها بأحداث ونشاطات لا تُحصى تستمر حتى نهاية آب المقبل".محطتنا الثانية كانت في مكتبة "السيد محمد حسين فضل الله العامة" في حارة حريك التي افتتحها "المركز الإسلامي الثقافي" التّابع لجمعية "المبرات الخيريّة" في العام 2004، وهي غنيّة بالمصادر والمراجع العلميّة المتنوّعة وتحتوي على أكثر من 120 ألف عنوان باللغات الثلاثة العربية والإنكليزية والفرنسية، بمختلف حقول المعرفة والعلوم.
وتتكوّن المكتبة من طابقَين يتوزعان على مساحة 1500م2 تقريباً، وقد صُنّفت كُتبها ورُتّبت على الرفوف بحسب المواضيع ووفقاً لنظام "ديوي العشري" العالمي المعتمد عالمياً في كل المكتبات العامة، ما يُسهل عملية إعارة واسترجاع الكتب.
أمينة المكتبة حنان رسلان أكدت أنّ الحضور يستمر بالارتفاع بوتيرة عالية، من كل الفئات العمرية وخصوصاً الطلاب، من بيروت وكل لبنان بحثاً عن مصادر المعلومات واستعارة الكتب الشيّقة والمفيدة. وقالت إنّ: "المكتبة اختتمت أخيراً أسبوع المطالعة بنجاح، وتواظب الآن على تنظيم قراءات قصصية ومسرح لدمى الأطفال وورش عمل أسبوعية".
أما عن المعاناة في مهمة الاستمرار، فتقول رسلان إنّ "رواتب الموظفين تُدفع من قبل جمعية "المبرات الخيرية"، إلا أنه يبقى الكثير من الصعوبات لتتعامل معها المكتبة وتواجهها بدءاً من الصيانة مروراً بالكهرباء والمصاريف اليومية"، مشيرةً إلى أن "إدارة المكتبة قلصت الدوام جراء الأزمة وفرضت رسماً نصف سنوي على المشتركين مقداره 500 ألف ليرة لبنانية (بعدما كان 50 ألفاً سابقاً)، ومن خلاله يستطيع الشخص استعارة كتابَين لمدة أسبوعَين".
ولفتت إلى أن أعمال الصيانة والمصاريف يتم تمويلها من تأجير القاعات التابعة للمكتبة ومن التصوير الورقي فيها.
أما "مركز المطالعة والتنشيط الثقافي" Clac في برجا، الذي افتُتح العام الماضي، فأكدت لنا مؤسسة Amis Clac زينب حامية أنه يشهد حركة كبيرة وكثيفة خصوصاً في صفوف الأطفال والطلاب. ويضمّ المركز روايات بمختلف اللغات وكتباً متنوعة بين السياسة والتاريخ وعلم النفس وغيرها.
وقالت: "هنا تُعار الكتب مجاناً بمعدل 3 كتب لمدة 3 أسابيع. لكن المركز يكافح ويعاني مع غياب رواتب الموظفين الذين باتوا يعملون كمتطوّعين".
في مدينة طرابلس ختمنا جولتنا، في مبنى أثري يعود تأسيسه إلى أكثر من 100 عام، ومكتبة افتُتحت منذ أكثر من 50 عاماً. وتضمّ مكتبة "السائح" كنزاً تاريخياً من الكتب بمختلف أنواعها، وثروة ثقافية من حوالى 120 ألف عنوان. إلا أنها تعرّضت للحرق والتخريب العام 2014، فخسرت ما يُقارب الـ25 في المئة من عدد الكتب فيها. ثم أُعيد ترميمها عام 2015، وأُعيد معها بناء الثروة الثقافية في داخلها.
وبابتسامة المنتصر والمناضل، وبهيبة الثقافي الذي لا يستسلم، يستقبلك الأب إبراهيم سروج كاهن الرعية الأرثوذكسية ومؤسّس المكتبة العريقة بالقول: "لن نستسلم في حربنا الثقافية فنحن نفتح بشكل يومي وننتظر الكهرباء لاستقبال زوارنا"، مضيفاً أنّ "حركة الإقبال كثيفة، وأكثر من يزور المكتبة هم جيل الشباب والأطفال برفقة أهاليهم بحثاً عن كتب تُغني بحوثهم المدرسية أو فضولهم الثقافي".
وجهة نظر تربوية ونفسية
مقابل الأرقام الواعدة التي تشير الى ثورة ثقافية مقبلة وانتصار محتّم للكتاب، تخبرنا الكاتبة والأخصائية النفسية والاجتماعية سمر محفوظ أن موقع الكتاب في حياة أطفالنا وطلابنا ما زال في خطر، خصوصاً كتب اللغة العربية. وقالت: "نشهد تراجعاً كبيراً للأسف في اهتمام الأطفال والشباب بالمطالعة والكتب وخصوصاً اللغة العربية حيث يفضّل هؤلاء اللغات الأجنبية. فعلاقة أولادنا بالكتاب تقتصر على تلك التي تفرضها المدرسة فحسب".
وتضيف: "تلعب القصص دوراً هاماً في تنمية قدرات الطفل الذهنية وشخصيته وتعزيز نموه العقلي والنفسي والعاطفي والحس الإنساني والفني والنقدي لديه من عمر صفر حتى 13 سنة، كما تسلّيه وتشجعه على الإبداع والابتكار وتكسبه قيماً إجتماعية وسلوكية بطريقة غير مباشرة. وبعد سن الـ13 يحتاج الطالب إلى الكتاب لتعريفه على قضايا وثقافات العالم وتطوير فكره وانفتاحه على الآخر وكسر نمط التفكير التقليدي لديه".
وعن التكنولوجيا والعالم الرقمي الذي قد يهدد الكتاب الورقي قالت: "بغضّ النظر إن أيّدنا وجودها أو لا، باتت التكنولوجيا وسيلة يومية وسريعة للصغير والكبير، تذهب بنا في غضون ثوانٍ إلى عالم ضخم من المعلومات. وأعتقد أنه مهما تمكّنت من الجيل الصاعد، فوسائل التكنولوجيا لم تقوَ بعد على تدمير مكانة الكتاب وخصوصاً القصص والرسوم المطبوعة فيها. وهنا يكمن التحدّي لنا ككتّاب في أن نتمكن من تقديم مادة شيقة ولفتة تغلب التكنولوجيا والمواد الرقمية وتجذب إليها القرّاء خصوصاً العنصر الشبابي".
وختمت حديثها متوجهةً إلى الأهل بالقول: "أنصحكم بالعمل على توطيد علاقة الطفل بالكتاب، عبر أخذه دورياً إلى المكتبات العامة ليتعرّف عليها ويقرأ كتباً من اختياره، وإشراكه في معارض الكتاب وفي النشاطات الثقافية التي تتضمن حكواتيين ومسارح دمى وما يماثلها. إجعلوا من قصة ما قبل النوم عادة يومية ينتظرونها لتعزّز أحلامهم... فلنجعلهم يقعون في عشق الكتاب والمكتبة العامة، ولنواظب على اصطحابهم إلى الحدائق العامة والمهرجانات ودور السينما".