النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
ذكّرني الصديق المثقّف محمد المشنوق برواية الأديب السوداني الطيّب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، ولفتني إلى أنّ الطيور أكثر دراية من الإنسان لأنها تهاجر في مواسم معروفة، بحثاً عن حبوبها ومناخاتها في أسراب متآلفة ومنسجمة فلا تسمع أصواتها إلا على سبيل التجمّع وتحديد الطريق، ولا تقتتل حتماً من أجل إحراز مساحة من الفضاء. والطيّب صالح هو من أئمة الرواية العربية التي اكتملت ملامحها مع نجيب محفوظ، وتوسّعت وشعشعت مع عبد الرحمن منيف وأمين معلوف ويوسف إدريس وسواهم ممن استطاعوا أن يحرزوا مقاماً مرموقاً لهذا الضرب من الفن الذي الجديد على أدب العرب.
وفي تلك الرواية الجميلة، يحكي لنا الطيّب، الذي أنهى دراسته في انجلترا، وتولّى وظائف في إذاعة لندن، ثم عاد إلى قريته في السودان بعد سبع سنوات ليحطّ على شاطىء النيل طيراً وفياً لمائه وترابه، هارباً من برد الجنوب، لائذاً بدفء الشمال، ولقد كتب بعد هذا روايات عده منها "دومة وحامد" و"عرس الزين" التي حوّلها المخرج الكويتي خالد الصديق إلى فيلم سينمائي ناجح جداً.
لقد رحل الطيّب، بعد ان نال قسطاً يسيراً من دفء الشمال الذي تحول لهباً وانقساماً وفقراً وقلقاً على مدى عقود، إذ ما تكاد الأعراف الديمقراطية تباشر بترتيب شؤون الدولة حتى تنقضّ فرق من الضباط للاستيلاء على الحكم مع سلسلة من المجازر بين رفاق الجيش الواحد، يخجل بها تاريخ السودان، وتتململ منها عظام الطيّب في قبره.
لقد عرفت الحياة السياسية السودانية الرجل الراقي والشاعر المرهف رئيس الوزراء محمد أحمد المحجوب، وعرفت خريج أو كسفورد الصادق المهدي، وأحزاب البعث والشيوعي والأمة والإخوان المسلمين، ولكن من أسف أنّ احتكامهم لم يكن للعبة الديمقراطية، بل للمراهنة على ضابط يمتطي دبابة في صباح باكر.
هكذا طوت الانقلابات، صفحة الفريق سوار الذهب الذي أسقط حكماً انقلابياً طال مداه وجرائمه، وأعاد السلطة إلى المدنيين، فما كادوا، حتى انقض البشير رافعاً راية الإخوان المسلمين، ثم انقلب عليهم، وأحكم قبتضه ثلاثة عقود حتى جاء الفرج وانتفضت القوى المدنية وأبرمت اتفاقاً مع الجيش الذي عاد وانقلب أيضاً، فإلى أي منقلب سينقلب السودان، وقد اشتبكت القوات المسلحة مع القوات المسلحة، ولانزال الضحايا المدنية تسقط، ومازلت العاصمة تستباح، فيما راحت الزمر تعد نفسها لنهش السوادن من مختلف جهات حدوده.
وأذا كانت الأمور تقاس بنتائجها، فإنّ الحكم العسكري قد أفضى إلى قسمة السودان إلى سودانين، وإلى تجريف أرضه الفائقة الخصوبة وإفقار شعب يتمتع بالحيوية والثقافة والعلم والكرامة، وها هو الآن يعرض هذه الدولة العزيزة إلى الصوملة فتكاد العدوى تنتقل إلى المنطقة برمتها.
بعد حين ستنتهي الحرب السخيفة والمجرمة، على تسوية سخيفة أيضاً أو انتصار مجرم، ولكن الخاسر الأكبر هو الشعب السوداني، الذي لم ينعم بالديمقراطية إلا لفترات قليلة.
كلّما شاهدت المعارك، وتابعت أخبارها على الشاشات، تساءلت وقلت، أي فارق بين الذين يدمرون دولتهم، وبين القوى السياسية التي تعمل على إنهاك الديمقراطية حتى تمتص منها آخر حَيْلِها وتضع لبنان في مهب مجهول على غرار المصائر المجهولة التي تعاني منها دول شقيقة وقريبة.
في الماضي وصف أمير الشعراء الأزمة التي كانت قائمة بين مصر والسودان فقال:
إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلامَ
وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلامَ
وَفيما يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ
وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما
وأين الفوز، لا مصر استقرت على حال ولا السودان دامـــــــــــــا،
فإلام الخلف بيننا إلامَ؟ ومتى سنتعلم من الطيور، ونرصّ الرفوف في موسم الهجرة إلى الدولة والوطن؟