جاسم عجاقة - الديار
مع الحالة التي وصل اليها الوضع الاقتصادي في لبنان، يتساءل المرء عن موانع القيام بإصلاحات اقتصادية، خصوصًا أن الظروف المعيشية تسمح بتمرير الكثير من هذه الإصلاحات، التي كانت منذ أربعة أعوام شبه مستحيلة.
تحليل المعطيات المتوافرة تشير إلى أن هناك عملية تجميد «مُفتعلة» أو «مقصودة» بانتظار أمرٍ ما، لا نعرف بالتحديد ما هو؟ العديد من الاحتمالات يمكن طرحها على هذا الصعيد، إلا أن الأكثر مصداقيةً هو احتمال انتظار الحلّ السياسي، الذي سيحدّد توجّه لبنان الاقتصادي – عنيت بذلك شرقاً أم غرباً. فالمعروف اليوم، أن كل الدول باستثناء الصين وروسيا وإيران، تلتزم قرارًا دوليًا بعدم مساعدة لبنان ماليًا (مساعدة الحكومة)، إلا ضمن اتفاق مع صندوق النقد الدولي، وهو ما يعني إجراء الإصلاحات المطلوبة.
هذا الواقع يُظهر مخاوفَ على مستويين:
-الأول : مستوى داخلي، حيث يتوجّس البعض (من القوى السياسية) عن عمق وأبعاد الإصلاحات التي قد يطلبها صندوق النقد الدولي، وهو ما يجعل أخذ القرارات أمرًا صعبًا إذ لم نقل مستحيلًا، وسيترجم على الأرض بعمليات تعطيل أو رفض لهذه الإصلاحات.
-الثاني : مستوى خارجي، حيث إن الصراع الأميركي – الصيني على النفوذ الاقتصادي في الشرق الأوسط يتأجّج مع توقيع الاتفاق السعودي – الإيراني برعاية صينية، والذي ترافق مع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية بين الصين والمملكة العربية السعودية، وبين الصين وإيران. وهو ما يعني تسهيل بسط النفوذ الاقتصادي الصيني في المنطقة، وهو أمرٌ لن تقبله الولايات المتحدة الأميركية.
في كلتاالحالتين، من المتوقّع أن يشهد لبنان، افتعال اشتباكات وهمية لمنع حصول الإصلاحات، تارة بإثارة النعرات الطائفية، وتارة من باب الاستحقاقات الدستورية.
إقرار بعض الإصلاحات أكثر من ضرورية
عمليًا على الأرض، الأجواء العامة والوضع الاقتصادي يسمح بإقرار العديد من الإصلاحات،التي (مع أو بدون اتفاق مع صندوق النقد الدولي) أصبحت أكثر من ضرورية، فمثلًا استقرار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركي، أصبح أمرًا مطلوبًا من قبل الشعب، حتى ولو على مستويات منخفضة لم نكن لنقبلها في العام 2019، وكلنا نتذكّر ردّة فعل بعض المسؤولين السياسيين، الذي رفضوا رفضًا قاطعًا طلب صندوق النقد الدولي خفض قيمة الليرة من 1507.5 ليرة إلى 5000 ليرة للدولار الواحد. أيضًا وعلى صعيد القطاع العام، أصبحت فكرة ترشيد الإنفاق العام فكرة مقبولة، وحتى مطلوبة بهدف استمرارية هذا القطاع، سواء كان على صعيد الموظفين أو على صعيد مؤسسات الدولة.
ومراقبة التوجّهات أو القرارات الحكومية (حتى النيابية)، تشير إلى توجّه نحو تمرير المرحلة الحالية من دون أخذ قرارات جذرية، على مثال رفع الأجور في القطاع العام، وهو أمر غير مستدام في ظل تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار الأميركي في السوق السوداء وعلى منصة صيرفة.
إجتماع اللجنة الوزارية اليوم
فاليوم تجتمع اللجنة الوزارية برئاسة رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي لبحث موضوع القطاع العام، تمهيدًا لجلسة لمجلس الوزراء المتوقّع أن تكون يوم الثلاثاء، إذا حصل توافق في اجتماع اللجنة اليوم. ومن المفترض أن يتمّ البحث اليوم في مساهمات بالقطاع العام، حيث المطروح دفع بدل إنتاجية تتراوح بين 150 و300 دولار أميركي شهريًا (يشمل كل الفئات)، أي بكلفة تتراوح بين 25 إلى 50 مليون دولار شهريًا، وذلك بالليرة اللبنانية على سعر منصة صيرفة، بالإضافة إلى بدل نقل يوازي خمسة ليترات يوميًا للموظفين على سعر وسطي تحدّده وزارة الطاقة والمياه. أما بالنسبة للعسكريين فهذه الأرقام هي بدل إنتاجية بين 100 و150 دولارا شهريًا، أي بكلفة 15 إلى 30 مليون دولار أميركي شهريًا بالليرة اللبنانية على سعر منصة صيرفة، وبدل نقل يوازي 2.5 ليتر يوميًا.
بالطبع، هذه الكلفة التي ستبلغ بالحد الأقصى 80 مليون دولار أميركي لا تمتلكها الدولة، وستطلب من مصرف لبنان تمويلها. هذا الأخير سيعمد إلى دفعها من دولاراته المتبقية أو من خلال طبع العملة، وهو ما سيعاود رفع سعر صرف الدولار في السوق السوداء، ويضرب الإجراء الأخير الذي قام به المصرف المركزي للجم جموح الدولار الأميركي في السوق السوداء، مما يعني رفعا إضافيا لسعر الدولار على منصة صيرفة، ومعها أسعار الخدمات العامة، بالإضافة إلى الارتفاعات الجنونية للسلع والبضائع لدى التجار.
طرح بخفض التقديمات
والمساهمات في القطاع العام
المعلومات تشير إلى أن هناك طرحا بخفض التقديمات والمساهمات في القطاع العام، مقابل إعطاء الأجور على سعر أقلّ من سعر منصة صيرفة، وهو ما يعني نقل الخسائر من موازنة الدولة إلى موازنة المصرف المركزي. وإذا كانت مطالب المتقاعدين العسكريين أن تعطى رواتبهم على سعر 28500 ليرة لبنانية، كما حصل سابقًا ، ومطالب القطاع العام أن تعطى أجورهم على سعر 45 ألف ليرة، إلا أن المصرف المركزي أعلم الحكومة أن لا قدرة له على الاستمرار في هذا الإجراء نظرًا إلى الخسائر التي يتكبدّها (80 مليون دولار على سعر 45 ألف ليرة)، وبالتالي لا تزال الطروحات مفتوحة، وهناك احتمال عدم التوصّل إلى نتيجة في اجتماع اللجنة الوزارية اليوم، على الرغم من الضغوطات التي يقوم بها العسكريون المتقاعدون وموظفون من القطاع العام.
من البديهي الاستنتاج أن عملية رفع الأجور لتحسين القدرة الشرائية لموظفي ومتقاعدي القطاع العام، هي حلقة مفرغة، والأجدى بحكومة تصريف الاعمال الذهاب نحو إجراءات أكثر فعّالية على مثال مكافحة تهريب الدولارات خارج الحدود، سواء عبر تهريب السلع والبضائع،أو عبر تحاويل «الكاش» عبر المصارف، أو عبر التهريب المستحدث للدولار «الكاش» إلى بعض الدول العربية.
أيضًا، من بين الإجراءات الأكثر فعالية، مكافحة الفلتان في الأسعار، والذي نقدّر ارتفاعه بعشرين إلى ثلاثين في المئة بالدولار الأميركي منذ اعتماد التسعير بالدولار الأميركي في «السوبرماركات»! ووقف التطبيقات التي لا تعكس بأي شكل من الأشكال الدورة الاقتصادية الشرعية! وهنا تُطرح الأسئلة عن الأسباب التي تمنع حكومة تصريف الاعمال من أخذ مثل هذه الإجراءات التي لا تحتاج إلى مجلس نيابي لإقرارها؟
صندوق النقد الدولي توقّع في التقرير الختامي لزيارته، التي تدخل ضمن مشاورات البند الرابع، ألا تتخطّى قدرة لبنان على الاستيراد الأشهر. وبالتالي هل تصبح حكومة تصريف الاعمال آنذاك مرغمة على القيام بإصلاحات؟ وحده الوقت كفيل بكشف الحقائق.