إبراهيم ناصر الدين - الديار
بغياب اي حراك جدي داخليا وخارجيا، لانتاج تسوية رئاسية تخرج البلاد من مأزقها الراهن، يعيش الجميع على آمال زائفة، ومعلومات متضاربة حيال كيفية الخروج من المأزق، خصوصا ان حالة الضياع الواضحة في مقاربة "خماسي" باريس للملف تدل على ان "الطبخة" لم تنضج بعد، وتحتاج الى المزيد من الوقت.
واذا كان الانهيار المالي والاقتصادي، وتحلل الدولة، قضايا مركزية تؤثر سلبا في حياة اللبنانيين ويومياتهم، وتشدهم نحو قعر" الهاوية"، فان الخلاف الطائفي المفتعل على التوقيت الصيفي اماط اللثام عن "جمر" تحت "الرماد"، يمكن ان يحرق كل شيء في ساعة" تخل. هذه الشعبوية التي استخدمها بعض القادة السياسيين وجرّوا جمهورهم المتعطش الى منازلة بعنوان "لبناننا ولبنانكم"، لا يبدو انها قد مرت مرور الكرام لدى بعض الدوائر الديبلوماسية الفاعلة على الساحة اللبنانية، وفي مقدمتها السفارة السعودية في بيروت.
واذا كان من انتقد القرار بخلفية تعميم شعور مسيحي عام، بان ثمة من يحاول تهميش دوره، ففي المقابل اعاد هذا السجال الى السطح "مظلومية" اهل السنة وشعورهم "باليتم"، في ظل غياب القيادة المركزية المتمثلة بـ "تيار المستقبل"، وهو ما جاهر به رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي، الذي تحدث عن حملة ممنهجة لضرب صلاحيات رئاسة الحكومة التي تملك الحق في اتخاذ قرارات لا شائبة قانونية حولها بغض النظر عن صحتها. ولهذا كان صارما في حديثه عن "ام الصبي" الذي يمثله السنّة... ولكن هل انتهت الازمة بالتراجع عن القرار؟
لا يبدو ذلك بحسب مصادر سياسية بارزة، التي لفتت الى ان الاجتماع الثلاثي بين ميقاتي ورئيسي الحكومة السابقين تمام سلام وفؤاد السنيورة، ناقش بعمق هذه المسألة الجوهرية التي لا يجب المس بها بحسب المجتمعين، الذين هالهم كل هذا التجرؤ في استخدام لغة مذهبية وطائفية على قرار اداري قانوني يمنحه الدستور لرئيس الحكومة بعد اتفاق الطائف. وكان واضحا من خلال اجواء المجتمعين وجود خلل واضح لدى القيادة السنية، يجب العمل على حله سريعا، بعدما تحول المركز الثالث في الدولة الى "مكسرعصا" من قبل بعض من يريد اعادة عقارب الساعة الى الوراء، والبحث مجددا في اعادة صياغة جديدة للدستور تنال من التعديلات الجذرية على صلاحيات الحكومة ورئيسها. وباتت القناعة واضحة بان ثمة من يحاول وضع "العصي" في"الدواليب"، كي تخرب الامور لاعادة انتاج صيغة جديدة على انقاض الطائف، وهو امر غير مقبول سنيا. لكن السؤال المركزي بقي حول القدرة على الوقوف في وجه هكذا مشروع تشعر القيادات السنية ان الجميع يتواطأ لتمريره!
ومن هنا، جاء التراجع عن تلويح ميقاتي بالاعتكاف الجدي، وهو ابلغ كلا من سلام والسنيورة رغبته بذلك، ليس لان المسألة تتعلق بنيته "القفز من المركب" قبل غرقه، بل لانه شعر ان هناك من يريد اغراقه بما يمثل من عنوان وليس كشخص، لكن النقاش انتهى خلال اللقاء بخلاصة مفادها عدم الرضوخ للضغوط او تعريض مقام رئاسة الحكومة للوهن، بل الاستمرار في تحمل المسؤوليات الدستورية، وعدم التفريط باي صلاحيات يمكن ان يبني عليها الآخرون في وقت لاحق، للمس بمؤسسة مجلس الوزراء وصلاحية رئيس الحكومة.
واذا كان ميقاتي قد "جمد" على مضض قراره بالاعتكاف، فان الفكرة لا تزال تراوده، وهي كانت مدار بحث بالامس مع السفير السعودي الوليد البخاري الذي لم يؤيد هذه الفكرة بتاتا، واكد على وجوب قيام ميقاتي بمسؤولياته الدستورية وعدم تسجيل سابقة في هذا الاطار. واذا كان البخاري لم يحمل الى السراي اي جديد رئاسي، فقد خصص جزءا من اللقاء لنقاش ما شهدته البلاد من انقسامات ومناوشات طائفية. وعلم في هذا السياق، ان الديبلوماسي السعودي لم يكن مرتاحا وازعجه ما جرى، خصوصا لجهة التصويب على صلاحيات رئيس الحكومة، وجدد تمسك بلاده بالطائف كما هو ودون تعديل يذكر، وقد هاله كلام بعض الشخصيات من حلفاء المملكة التي تقول في العلن شيئا وفي السر تضمر شيئا آخر! ووفقا للمعلومات، وعد البخاري بالعمل على تزخيم النقاش مع القيادة السعودية حول ترتيب الملف السني، تحت عنوان الحفاظ على التوازنات الحالية في توزيع السلطات السياسية.
لكن في المقابل، لا تبدو المخاوف المسيحية اقل من تلك السنية، ورد الفعل العنيف على قرار"التوقيت" الذي لم يبدده اتصال ميقاتي بالبطريرك بشارة الراعي الذي اعلن عدم الالتزام بالقرار، يدل على وجود شعورعام بان المسيحيين "مهمشون" من دائرة القرار، وثمة محاولات لتجاوزهم حتى في امور لا تعتبر اساسية، وبخفة منقطعة النظير من قبل رئيسي المجلس والحكومة. ولهذا جاء الهجوم استباقيا، بحسب مصادر مطلعة، لمنع تمرير قضايا قد تكون اكثر اهمية في المستقبل ، بقرار يصدر عن ميقاتي من دون حتى العودة إلى مجلس الوزراء، في ظل استمرار الشغور الرئاسي. وقد ارادت القيادات المسيحية ان تبلغ من يعنيهم الامر انها لن تسمح باي رئيس لا يمثل مسيحيا وفق ما افرزته الانتخابات النيابية الاخيرة.
وكان واضحا ان هذا الاحتقان كبر بعد تبني الفرنسيين لمقترح "المقايضة" بين فرنجية ونواف سلام، وتجاهلها اعتراضات اكبر كتلتين مسيحيتين في مجلس النواب، ثم تجاهل مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف خلال زيارتها لبيروت لقاء القيادات المسيحية. كل تلك التطورات زادت الاحتقان، وجاء التعبير عنها في ازمة "الساعة".
في الخلاصة، ما شهدته البلاد من تصعيد طائفي- سياسي، لم يكن خلافا حول التوقيت، بل ازمة اعمق بكثير، بين مكونات مذهبية لم تعد تثق بنيات بعضها بعضا، "الثنائي الشيعي" المتهم "بفائض القوة" يبحث دوما عمن يطمئنه من الآخرين. المكون السني "المشتت" بعد انسحاب الرئيس سعد الحريري من الحياة السياسية يشكو من استهداف ممنهج لمكتسبات حصل عليها في الطائف. القوى المسيحية المختلفة على كل شيء، تلتقي على "هواجس" التهميش وتعبر عن ذلك باشكال مختلفة. وهذا ما يؤكد بحسب مصادر نيابية، ان الازمة ابعد من انتخاب رئيس والاتفاق على اصلاحات وحكومة جديدة!