الشاعر هنري زغيب
تحدَّثتُ مرارًا وكتبتُ تكرارًا عن تفريقيَ جذريًّا بين الوطن والدولة والسُلطة، وكيف أَرى الوطن عاليًا فوق العوابر، خالدًا بتاريخه وحضارته وأَعلامه، فيما الدولةُ متغيِّرةٌ عابرةٌ برجالٍ في السلطة إِن أَفسَدوها فَسُدَت الدولة إِنما لا يُمَسُّ الوطن. وحين قلتُ إِني أَنتمي إِلى لبنان الوطن وأَستقيلُ من لبنان السلطة والدولة، فهِمَ البعض أَني ضدَّ الدولة مطلقًا وضدَّ السلطة عمومًا.
مش صحيح.. أَنا لست ضدَّ الدولة مطْلَقًا بل أَنا ابنُ الدولة وأَحتاجُها حاميةً راعية. وأَنا لستُ ضدَّ السُلطة بل أَنا داعمُها كي تدعمَ الدولةَ وتؤَمِّن صَلاحها وتاليًا صلاحَ المواطنين جميعًا بلا تفرقة. لكنني أَستقيلُ من هذه السلطة الحالية التي فشلَت في إِدارة الدولة فسقطَت في الكارثة التي نعيشها اليوم، دولةً مدمَّرةً على رؤُوس مواطنين يَرَون كلَّ ما في دولتهم ينهار ولا أَمل بقيامته لأَن مَن في السُلطة دمَّروها، ولا يمكن مَن يدمِّر أَن يكون هو الـمُعَمِّر.
حين تتدهور الطائرة لا يُلام الركَّاب بل قائدُ الطائرة. فكيف نَثِقُ بعدُ بِسُلْطةٍ دَهْوَرَت دولتنا إِلى الإِفلاس سياسيًّا ومصرفيًا واقتصاديًّا وتربويًّا واستشفائيًّا ودوائيًّا وماليًّا وغذائيًّا فسقطَ شعبُنا في الفراغ القاتل أَمام ضَبْعٍ شرسٍ مُرعبٍ مجهول الأَشكال واضح الأَفعال يُوْدِي بشعبنا إِلى اليأْس والهجرة وحتى الانتحار. هذه هي السُلطة التي اغتالت الدولة عوَض حمايتها، فشوَّهَت صورةَ الوطن على شكل صورتها وتهدِّد هُوية الوطن بِسَوْقِه قسْرًا إِلى هُوياتٍ أُخرى هجينةٍ تجعل لبنان يتهاوى من البرد عاريًا في صقيع العالم.
لا أَفهم كيف دستُوريًّا يُربَط رئيس الجمهورية بمدَّة محددة لا يتجاوزُها ولا يجدِّدها إِلَّا بفَتاوى وتشريعات، ولا يُربَطُ النواب والوزراء بمدةٍ محدَّدة، فيَعودون إِلى الحكْم مرارًا وتكرارًا دَورةً بعد دَورةٍ بعد دَورة، وحكومةً بَعد حكومةٍ بعد حكومة، هُم ذاتهم بكل فشلِهم وفسادِهم يَعودون إِلى الحكْم ولو انهم فاشلُون ومقصِّرون وضالعون في الفساد، قاطعين الطريق على أَجيال جديدة وأَسماء جديدة ومواهب جديدة قد يكون فيها، بل حتمًا يكون فيها دمٌ جديدٌ لشرايين الوطن.
أَقول هذا ولا أَستثني قسمًا من شعبنا هو المسؤُول عن انتخابهم وإِعادة انتخابهم مرات متتالية، صاغرًا بكل غباءٍ لجلَّاديه، حتى إِذا وقعَت بسببهم كوارث، كدولار المئة أَلف ليرة مثلًا، أَخذ الشعب يتندَّرُ باستنباط نكات التفكهة الكاريكاتورية حول المئة أَلف، عوض أَن ينقضَّ على بيوت الذين سبَّبوا انكسار الليرة إِلى هذا الحضيض.
قبل أَسابيع، أَطلقتُ من "النهار" زاويةً يوميةً في سلسلةٍ سَـمَّيْتُها "السُلطة أَفشلَت الدولة، أَيُّ صورةٍ أَبقى للوطن؟" فجاءَتْني أَجوبةٌ معمَّقَةٌ نشَرْتُها تباعًا، كان آخرَها جوابُ الدكتور النائب غسَّان سكاف، مفتتحًا جوابَه بعبارة تشرشل: "تصنعون من الحمقى قادةً ثمّ تسأَلون من أَين أَتى الخراب". وجاء في ختام جوابه: "لن يرحمَ التاريخُ شعبًا وقَف يتفرَّج على زوال وطنه فيما حكَّامُه يتمسَّكون بالمناصب ويستقيلون من المسؤُولية". وإِنني أَستعير عبارة الدكتور سكاف، وأُحوِّلُها إِلى كلِّ فردٍ من شعب لبنان، وإِلى كلِّ سياسيٍّ في حكْم لبنان، لأُشدِّد تكرارًا أَنني أَنتمي إِلى لبنان الوطن الخالد، وأَنفصلُ لا عن السُلطة في بلادي بل عن هذه السُلطة فيها، ولا أَستقيل من أُمِّيَ الدولةِ في بلادي بل عن هذه الدولة التي سُلْطَتُها شوَّهت لي أُمومةَ الدولة فرضِيْتُ بأَن أَبقى يتيمًا بلا أُمّ، على أَن تكونَ لي أُمٌّ أَرفض أَن أَعترفَ لها بشرفِ الأمومة.
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا