ما كان وصار
ما كان وصار

خاص - Sunday, March 5, 2023 7:00:00 AM

النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس

لو وخزتني شوكة لكان الدكتور بلال نافع أسرع إلي من نفور الدم، حتى أنني نقلته من اختصاصه في الأنف والأذن والحنجرة إلى الاختصاص الشامل، فعندما أصبت بكسور في عظام يدي لم يستنجد أهلي بسواه؛ وسرّه أنه يستأخر استخدام العقاقير ريثما يعالج بطرافته وخفة ظلّه وجل المريض الذي يتماثل للشفاء قبل تناول الدواء. هو الضاحك الباسم المثقف، إلى أن قابلته يوم الثلاثاء الماضي في المستشفى وكان يحبس الدمع عن خديه، سألته عن حال والده أجابني:"إنها مسألة ساعات"، غادر المرحوم عاطف الدنيا فيما كانت صورة ابتسامة ابنه آخر مشاهدها، فقرّت عيناه ونفث رضاه عنه مع آخر الأنفاس.

يا دكتور بلال، نحبك من صمامات القلب ونقى العظام، ومساري الأنف الأذن والحنجرة.. رحمة الله على أبيك.

أصدقائي،

للمرة الثانية، يستدعيني الدكتور غالب غانم الرئيس الأول السابق لمحكمة التمييز إلى رحاب الحركة الثقافية في انطلياس للاشتراك مع الدكتورة الهام كلّاب والدكتور الكسندر نجار في مناقشة آخر مؤلفاته وهو بعنوان "أيام الصفاء والضوضاء" وذلك يوم الجمعة القادم، فأوجب ذلك عليّ أن أقرأ سيرته في خمسمئة صفحة امتزج فيها التشويق الروائي مع سرد لنسق حياة، وتدرّج ثابت، وعرض لخبرات تصلح أن تكون مرجعاً لأهل القانون، وحكاية جميلة للهواة المتذوقين.

تداخلت متعتي الكمد، بين ما كان وصار، لأن الرجل حدّثنا عن أيام العصامية التي كانت تؤهل الأجيال للأدوار المرموقة والمناصب العليا، وترتفع بالأديب ابن الأديب إلى ذروة القضاء فكان لدماثته الوقورة وبلاغة حاجبيه فضل لا ينكر في الانتظام القضائي المتحصّن بموجب التحفظ.

أنا لن أستبق الأمر وأستعير ما كتبته لأقرأه قبل أوانه، بل انتهز الفرصة للحديث عن ثوابت لا بد منها، لاسترداد العدالة لرونقها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإنصاف يقتضيني الإقرار بأن السادة القضاة يمرّون في ظروف قاسية غير مسبوقة، ولكنهم في هذا يشاركون السواد الأعظم من اللبنانيين الذين أفقروا بلا شفقة ولا رحمة، وهم أيضا عرضة لتجاذب سياسي متوحش يعطّل تشكيلاتهم ويضعهم في مهب الخطر والتشهير..

من حق القطاعات أن تحتج وتنتفض بوجه الظلم المعيشي الذي لم يوفر أحداً على الإطلاق، ولكني أحدّث السادة القضاة والأساتذة الأجلاء والأطباء والممرضين والعمال والفلاحين فأقول إن كل زيادة في الأجور تأكلها حلفة التضخم الجهنمية المفرغة، وهذا مردّه أن جذر أزمتنا الاقتصادية يكمن في معضلتنا السياسية المرتهنة للمصالح الخارجية، فلو هبّت القطاعات كلّها كما كان في ذلك اليوم المجيد من أكتوبر، لتحسّس الساسيون رقابهم وذهبوا إلى انتخاب رئيس.

ورغم هذا.. فإن أحداً لا يلوم السلطة التنفيذية عندما أحجمت عن تنفيذ قرارات صادرة عن غير ذوي أو ذوات صفة، لأن السلطة القضائية تستطيع بدورها أن توقف أعمال السلطة التنفيذية عندما تخالف القانون كما حدثنا "موتنسكيو" في روح الشرائع، وهذا ما أوجب الاستفاقة القضائية الأخيرة، التي أرجعت أخيراً الأمور إلى نصابها.

وفي النهاية أعود إلى غالب غانم وكتابه فأستعيد القول: إنّ رحلته من الشائع إلى الأصيل، من سهل الأول ووعر الثاني، "من السير مع القافلة إلى الشرود الخلّاق" كانت ولا زالت رحلة تسعى إلى غير مستقَر، فليس العمر عنده مسيرةً نحو هدف، بل هو الترحّل في الحقب والمعارف والمجاهل، لذّته في وعره كما يقول، ومتعة التحليق حين الريش لا يبغي الوصول، كما أقول.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني