سناء الجاك
هو حقاً «سوق عكاظ» ما نعيشه اليوم. سوقٌ كان رائجاً في أيام الجاهلية وها نحن نعود إليه. قديماً، كان يُصار الى تبادل السلع والتجارة وحتى المواعظ وفق القاعدة المسماة «سوق عكاظ» مع فارق أن اليوم لا شعر ولا نثر في السوق بل ثياب عتيقة يتبادلها اللبنانيون وخطابات للسياسيين بالية لا نفع منها وبها. في البلاد اليوم ظاهرة بيع الثياب بالكيلو. فما قصتها؟ من يشتري؟ ومن يبيع؟
منذ عام، أو ربما أكثر بقليل، أصبحنا نرى في كل مكان نذهب إليه، وكيفما توجهنا وسرنا، بدل محلات الماركات الفاخرة أسواق بيع الملابس بالكيلو. ولّت أيام العزّ وأصبحنا، ما أرادوه لنا: تحت الأرض. وبعض تلك المحال وضعت يافطات: سوق عكاظ. إسم ملفت لعصر يفترض أن يكون مختلفاً.
دخلنا أحد المحال في منطقة المنصورية. فيه شيء من كل شيء يخص الملابس، من البابوج حتى الطربوش. هو تعبير لبناني "قح" يعني من الحذاء الى القبعة. نقلّب بين الأغراض. معاطف وسترات وقبعات وأحذية. وهناك زاوية في المحل تقول: ضعوا ما لا يلزمكم وخذوا ما تحتاجون إليه "خود واعطي". إنها أشبه بالمقايضة. نعطي ونأخذ. إنها خطوة مختلفة جديدة في زمن القلة والعازة والحاجات الكثيرة. خطوة قد يبدو فيها تضامن وتعاضد لكن فيها أيضا أكثر من ذلك بكثير.
عايزين جاكيتات لولادكن؟ زورونا. الزوار كثيرون. الحاجة تدفع الناس الى هناك وليس "الجخّ". بيعونا تيابكن واشتروا جديد. عبارة أخرى تتكرر من نفس المنحى والمعنى.
القطعة بـ30 ألفاً!
نبحث أكثر عن أصحاب الفكرة فيتكرر إسم "فابريك إيد". فماذا فيها؟ ماذا عنها؟ هي مبادرة ولدت في الأيام الصعبة وجمعت ما بين سوق عكاظ وسوق الخلنج. فماذا عن مفهوم سوق الخلنج؟ هو يقوم بإعادة تدوير الملابس المستخدمة. مؤسسها هو عمر عيتاني وأحد أفرعها هو في لبنان. الشاب عمر، ريادي أعمال منذ كان مراهقاً، طالباً في المدرسة الثانوية، أنشأ في البداية شركة لإدارة النفايات، وحين اكتشف أهمية وكفاءة المؤسسات الإجتماعية فكّر كثيراً: ماذا أفعل أكثر؟ ومن التفكير أكثر مع العمل أكثر وأكثر إنبثقت "فابريك إيد" للحدّ من نفايات النسيج أولاً ونضجت فكرته لاحقاً فأصبحت تستقبل التبرعات من ثياب جديدة، أو قديمة غالباً، تنظفها، تفرزها وتبيعها بأسعار زهيدة. لديها مئات المستوعبات على الطرقات يجدها الواهب كيفما اتجه. تجمعها وتوزعها الى فئات: تنورة قميص جاكيت وحتى كلسات. تصلحها وترسلها، أو كانت ترسلها الى سوق الخلنج، مكوية وجاهزة للمتسوقين. والأسعار كانت بين 500 ليرة وثلاثة آلاف ليرة. اليوم بحسب المسؤولة عن التسويق لوليا حلواني إرتفعت الأسعار وأصبحت بين 5000 و30,000. كانت على سعر دولار 1500 فأصبحت على سعر دولار السوق السوداء. لكن، 30 ألف ليرة أقل من نصف دولار. يعني، في المفهوم العام، ببلاش.
من فابريك إيد ولد "سوق الخلنج" في لبنان. ومن فابريك إيد ولد أيضاً "سوق عكاظ". ومنه أيضاً وأيضاً ولدت فكرة second base. فلنتعرف على ما أصبحت عليه الفكرة وما أصبحنا عليه كلبنانيين؟
تتحدث حلواني عن المبادرة التي انطلقت قبل الثورة في لبنان بعام واحد فقط. لم يكن اللبنانيون يومها "عال العال" بل كانوا بحاجة الى دعم، ورويداً رويداً أصبح عدد من هم بحاجة، وبحاجة ماسة للغاية، أكبر بكثير. البلد كله، أو لنقل 99,999 في المئة منه بحاجة الى دعم. انطلقت "فابريك إيد" في المناطق الأكثر ضعفاً في البلاد من أجل تأمين تجربة تسوّق كريمة للسكان. ووضعت مستوعبات - عددها اليوم مئتان - في مناطق تُعدّ أكثر من متواضعة "مرتاحة". اليوم، التبرعات أصبحت أقل من قبل. المتبرعون نقصوا كثيراً عن قبل لكن التبرعات تستمر، بحسب حلواني "غود كواليتي".بيع وشراء
هناك معمل خياطة في منطقة المكلس، يعمل موظفوه - وموظفاته - على تصليح الألبسة أو تحويلها الى سلع جديدة: حقائب وعلب، تشتريها عادة الشركات والمؤسسات. والأموال المستوفاة تدفع كأجور للعاملين في الخياطة.
نعود لنسأل لوليا حلواني عن سوق الخلنج وسوق عكاظ؟ تجيب "سوق الخلنج هو موجه للأشخاص الضعفاء، وله ثلاثة فروع في مناطق تُصنف فقيرة هي: برج حمود وطرابلس وعكار. أما سوق عكاظ فله خمسة فروع وهو موجه للأشخاص متوسطي الحال، أو من كانوا متوسطي الحال، وفيه تباع وتشرى الملابس. يبيع من يملك ثياباً لم يعد يريدها ويقبض "كاش"- نقداً- ومن يريد يمكنه أن يشتري من الثياب التي سبق وباعها سواه ونُظفت وباتت أشبه بجديدة".
الأسعار موجودة عند المدخل. وسوق عكاظ يشتري براندات فقط. هناك 170 برانداً يشتريها السوق ويهتم بها. لماذا ذلك؟ ببساطة، لأن السوق وُجد للأشخاص الذين كانوا معتادين على شراء الثياب من علامات تجارية معينة واليوم أصبحوا عاجزين عن ذلك. أما الاسعار، لمن يهمه الأمر، فهي على الشكل التالي: إذا نويتم بيع قميص من براند معين حدد سوق عكاظ سعر شرائه من الزبون بأربعة دولارات، فهذا معناه أنه سيشتري مثله منكم بدولار واحد وبعض السنتات الإضافية. السعر يبدو وكأنه يقسم على أربعة بين الشراء والمبيع. في أي حال، من يهتم فعلياً يمكنه قراءة الأسعار الظاهرة بوضوح عند مدخل فروع سوق عكاظ.
"فانتج"
الناس، من تعرفوا على فكرة سوق عكاظ اللبنانية المنشأ، أحبوها. نعم، فلنقل إنهم أحبوها كي لا نقول إنهم أصبحوا مجبرين على تقبّل أي فكرة تحيي فيهم بعض ملامح من رفاهية أيام زمان. فكرة سوق عكاظ - بصيغتها اللبنانية - إنطلقت في كانون الأول 2020، يعني منذ بدأ اللبنانيون ينزلقون إقتصادياً وخدماتياً الى ما تحت تحت الأرض. ثمة فكرة ثالثة، موجهة الى من يعشقن تصاميم الـ"فانتج"، أي ما هو قديم منها ويعود الى الستينات والسبعينات، وترجمت الفكرة من خلال فتح محل للملابس القديمة المعاد بيعها باسم second base. من يبحثن عن موضة أيام زمان ويرغبن في "التأنق" في الأيام الصعبة فما عليهن إلا أن يقصدنَ محل بيع ملابس الـ "فانتج" والحصول على قطعة على ذوقهن. والأسعار تتراوح بين ستة وثمانية دولارات فقط لا غير.يَعد الحاكم بأمره بيئته الحاضنة بدروب الخلاص من خلال تهديد الولايات المتحدة باستهداف ربيبتها وطفلتها المدللة إسرائيل. لكن ماذا بعد التهديد؟ في الأساس لمَ التهديد؟ فإذا كان الحاكم بأمره قادراً على النصر وإنهاء وجود العدو الذي يحمِّله هذه «الفوضى» التي تفتك بكل وسائل الأمن والأمان، لماذا لا يتصرف، وكلنا معه، حينها؟
ذلك أنّ الانتظار حتى تشتد آلام الأمعاء الخاوية هو عبثي و»مازوشي» ولا منطق له. وقطع رأس الأفعى أفعل من استعراض القوة والتسلي بمراوغة ذيلها لتخاف. صحيح أنّه عاين وباليقين العلاقة العضوية بين الراعية والربيبة، كما بينت الوساطة الأميركية التي تجاوزت كل الخطوط الحمر والعقوبات والتصنيفات بشأن «إرهابه» وتفاوضت معه تحت الطاولة، ونالت منه التبريكات والضمانات اللازمة لترسيم الحدود البحرية، بما سمح لهذه الربيبة الغالية أن تبدأ تصدير الغاز من حقل «كاريش» السليب.
لكن الصحيح أيضاً هو وصول لبنان إلى مرحلة ما بعد الارتطام الكبير، بحيث أصبحت أمجاد تحوُّلِه إلى دولة نفطية هباء وهراء مع تلاشي الدولة وماليتها ومؤسساتها. بالتالي، فقد أضحت وظيفة المفاعيل الناتجة عن التهديد أشبه بوظيفة الليرة اللبنانية المسحوقة حيال سعر صرف الدولار، أو ديكور شكلي للدولرة، ولا قيمة فعلية لهذه العملة، لا في الداخل ولا في الخارج.
ويمكن سرد مئة سبب وسبب للدلالة على أنّ الذهاب أبعد من التهديد اللفظي دونه الكثير من حسابات لا طاقة للحاكم بأمره على تحمّلها وحده، وتحديداً بعدما قضي على أي مرجعية سياسية سيادية تحشد الجهود، وصولاً إلى حل إنقاذي تستفيد منه، يشبه القرار 1701 لوقف العمليات الحربية، وإلى اقناع المجتمعين العربي والدولي بتقديم مساعدات كانت كافية لإعادة الإعمار بعد «حرب تموز» على الرغم من الفساد المشرعن بفتاوى واجتهادات تتكامل و»النصر الإلهي» الذي «هز الدني» في حينه، ولا نزال نهتز من ارتداداته وارتجاجاته.
فقد كان الهدف الرئيس لذلك «النصر» يرمي إلى تدجين القوى السياسية وإرغامها على الإذعان لمصادرة قرار الدولة. وعلينا الإقرار أنّ الهدف تحقق. وفي حين يبدو منطقياً تدجين هذه القوى التي باعت السيادة مقابل تغطية فسادها، لكن ماذا عن الأوضاع المأسوية للبيئة الحاضنة التي يحتاجها الحاكم بأمره ليستقوي من خلالها على بقية اللبنانيين؟
يبدو أنّ لا حل آخر إلا اللجوء إلى تهديد الولايات المتحدة وربيبتها، وهو تهديد مستهلك، لكن ربما لا يزال ينفع للتخدير واستعراض القوة، حتى تعض البيئة الحاضنة على جوعها، وتسترد لفترة وجيزة بعض الأمان، وتستكين إلى مرجعيتها التي وعدتها بالمن السلوى، حتى لو زلزلت الأرض كل زلازلها السياسية والاقتصادية والطبيعية. ولكن ماذا بعد زوال مفعول المخدر؟ ربما زيادة الجرعة في التهديد المقبل، إذ يبدو أن هذه الوسيلة هي السلاح الوحيد المتبقي. ولكن إلى متى؟
والوهم لا يكمن في رهان الشيطان الأكبر على «الفوضى» لضرب الحالة الصابرة الصامدة المنبثقة من الإيمان المطلق، ولكن يكمن في انصياع المريدين من أبطال الصمود والتصدي وهتافات «الرينغ»، حتى يتوصل إلى النجاح في عقد الصفقات المثمرة التي تسلم مقاليد البلد لأصحاب المشروع، لأنهم وحدهم يملكون القدرة على التهديد، ولا تستوي صفقة من دونهم.
بالمختصر المفيد، لا يتحمل الحاكم بأمره يقظة البيئة الحاضنة وانتفاضتها عليه وعلى المنظومة التي لا يزال يحميها، حتى بعد الارتطام الكبير، ويرفض أي ضغط عليه وعليها من خلال ربط الصفقة المرتقبة ببعض الإصلاحات التي ربما تحتاج كبش فداء. لذا كان التهديد لتخدير البيئة الحاضنة، فتصبر حتى تنضج الصفقة وفق مقاييسه... والله مع الصابرين.