من حق اللبنانيين ان يتجمّد الدم في عروقهم في هذه المرحلة بالذات، ليس فقط بسبب صقيع الطبيعة والذي تأخّر وصوله هذه السنة، وليس فقط بسبب هول الزلزال المدمّر الذي ابتلع مساحات سكنية في تركيا وسوريا وهزّ بعنف مختلف الأرجاء اللبنانية، بل ايضًا بسبب الجمود الذي يحوط بعملية انتخاب رئيس جديد للبلاد، وسط تفاقم الأزمة الاقتصادية والحياتية إلى مستويات قياسية.
وما زاد من قلق اللبنانيين، المعلومات الشحيحة حول اجتماع باريس، بعدما عوّل عليه البعض آمالاً كبيرة حيال إمكانية ظهور الحل المطلوب. واستطراداً، من حق اللبنانيين ان يزداد قلقهم، وسط هذه الصورة الملبّدة، والتي لا تلحظ مخارج بل تُظهر انسداد الأفق، وقد يكون هذا صحيحاً وفق ما هو ظاهر، لكن التعمّق بعض الشيء في المعطيات المتوافرة يُظهر مشهداً آخر يحمل بعض الآمال.
بداية، فإنّ الاجتماع الطويل نسبياً، والذي عُقد بين ممثلين عن الدول الخمس في باريس، أظهر موقفاً سعودياً متشدّداً حيال الرؤية المطلوبة من لبنان للمرحلة اللاحقة. وقيل انّ السعودية التي كانت آخر من أبلغ عن اعضاء وفدها، ناقشت بإسهاب وجوب تطبيق القرارات الدولية في شأن لبنان، ولا سيما القرارين 1559 و1701، إضافة إلى وجوب ان يكون الرئيس العتيد بعيدًا من تأثير «حزب الله» ولديه تاريخ مشهود بنظافة الكف، وانّ هذا ما يجب ان ينطبق على رئيس الحكومة المقبل ايضًا، والذي يجب التفاهم حول اسمه مسبقاً، وانّ الحكومة يجب ألا تلحظ أي تمثيل لـ«حزب الله»، وان يكون برنامج عملها السياسي واضحاً ومعلناً منذ الآن. هذا السقف العالي للطرح السعودي لم يفاجئ الوفود المشاركة، كونهم كانوا قد سمعوا التصور السعودي في السابق اكثر من مرة. وكان لافتاً انّ مساعدة وزير الخارجية الاميركية باربرا ليف، تناغمت مع مداخلات مستشار الديوان الملكي السعودي نزار العلولا، وهو ما فسّر بأنّ التوقيت الاميركي لإنجاز تسوية في لبنان لم يحن بعد. وباريس الغارقة في تدهور علاقاتها مع ايران، مضافاً اليها أزمة احتجاز أحد مواطنيها في طهران، والذي أضحى على مشارف الموت، سعت لترك الطرق الخلفية مفتوحة، على أمل استخدامها في وقت لا يكون بعيداً.
في الواقع، فإنّ التشدّد السعودي لديه مندرجاته وأسبابه، والتي ترتبط بالنزاع الكبير مع ايران في المنطقة وصولاً إلى الحرب المفتوحة في اليمن. ولا بدّ من إعادة التذكير بالزيارة التي قام بها السفير السعودي إلى قصر بعبدا قبيل نهاية عهد الرئيس ميشال عون، وحيث طرح يومها الملف اليمني في موازاة سعي لبنان لحلّ العِقَد التي تمنع تشكيل حكومة جديدة بما لـ«حزب الله» من تأثير على مسار الحرب الدائرة في اليمن.
وطوال المراحل السابقة، أحجمت السعودية عن مدّ يد المساعدة الاقتصادية للبنان، لاعتبارها انّ ذلك سيساهم في إنعاش السلطة اللبنانية التي يمسك بها «حزب الله»، ما سيؤدي في حال المساعدة إلى استفادة الحزب من الجزء الأكبر من هذه المساعدات، والتي سيستخدمها في اليمن ضدّ المصالح الأمنية السعودية. وجاءت ارقام الدراسات والاستطلاعات حول الوضع المعيشي اللبناني لتعزز النظرية القائلة بوجوب ترك «دولة حزب الله» تتفكّك وتتدمّر قبل الشروع في إعادة بناء دولة على أسس جديدة.
وفي آخر استطلاعات الرأي لمؤسسة «الباروميتر العربي» الاميركية والمتخصصة بالبلدان العربية، ظهر انّ نسبة 48% من اللبنانيين نفد الطعام الذي اشترته، ولم يكن لديها من المال ما يكفي لشراء مزيد منه. كذلك فإنّ 45% منهم يقولون انّ دخل الأسرة لا يغطي النفقات ويواجهون بعض الصعوبات، ما يعني انّهم فقراء والأخطر انّ نسبة 22% يواجهون صعوبات كبيرة أي انّهم فقراء جداً.وخلال الاجتماع الخماسي في باريس، بقي الموقف السعودي على تشدّده، في وقت تناغم فيه الموقف الاميركي معه. وكان التفسير واضحاً: الحل في لبنان يبدأ في مكان آخر، والمقصود هنا اليمن. وبخلاف المشهد المتشابك والمعقّد في الشرق الاوسط، ثمة من يهمس بوجود ايجابيات حول الملف اليمني قد لا تتأخر في الظهور.
فوفق اوساط ديبلوماسية مطلعة ومتخصّصة بديبلوماسية الكواليس، يدور همس حول تقدّم يحصل في إطار المفاوضات الجارية بعيداً من الاعلام، بين السعودية والحوثيين، لتحقيق وقف اطلاق نار دائم وثابت وترتيب التسوية المطلوبة.
لذلك، ربما آثرت واشنطن التماهي مع الموقف السعودي في باريس انتظاراً للرهان المعقود على المفاوضات الدائرة. ولذلك ايضاً سعت باريس لوضع برنامج زمني يجري خلاله رسم خريطة طريق تصلح لأن يتبنّاها الاجتماع الخماسي المقبل، والذي من المفترض ان يكون على مستوى وزراء الخارجية، وقبل بدء فصل الصيف المقبل.
ففي الكواليس الديبلوماسية همس بأنّ التفاهم بين السعودية والحوثيين قد لا يستهلك اكثر من اسابيع معدودة، شرط أن لا تظهر عوائق. وإحدى هذه العوائق قد تكون مع اعتراض دولة الامارات العربية المتحدة على بعض البنود المطروحة على التفاهم، وهي التي تمسك بالجزء الجنوبي من اليمن، وهو الجزء الذي يشرف على ممرات النفط البحرية. أضف إلى ذلك وجود حساسية غير معلنة حتى الساعة بين السعودية والامارات، التي تسعى إلى فرض نفسها مرجعية اقليمية. وظهر ذلك في وضوح مع آثار الزلزال الذي ضرب شمال سوريا، والتحرّك الاماراتي السريع من زاوية المساعدات الانسانية، في وقت لا تزال الحركة السعودية في اتجاه دمشق تخضع لدرس متأنٍ، مع عدم إغفال انّ الكارثة الانسانية في سوريا وتركيا قد تساعد في دفع حلول التسويات في المنطقة. ذلك انّ الواقع الانساني يفرض نفسه ويؤدي إلى كسر قيود العقوبات، وهو ما سيُلزم واشنطن بالإسراع في صوغ التسوية من رحم المأساة. وفي المقابل، فإنّ طهران مضطرة إلى إظهار مقدار من الليونة، كونها غير قادرة اقتصادياً على إسعاف أهوال الكارثة الانسانية الحاصلة، ولا الاقتصاد الروسي المرهق من حربه الاوكرانية قادر على ذلك ايضاً، والأزمة الاقتصادية الصعبة في ايران تعطي تفسيراً لتقدّم المفاوضات السرية بين الحوثيين والسعودية.
وليس سراً انّ إنجاز الخرق على مستوى الجرح اليمني المفتوح، وتحقيق بعض الحلحلة في سوريا، ولو من خلال المأساة الانسانية الحاصلة، سينعكسان من دون أدنى شك على التعقيدات اللبنانية التي تقفل كل الابواب الداخلية لإنتاج الحلول المطلوبة. لكن الجميع يدرك أنّ إنجاز تسوية في لبنان يحتاج بدوره إلى بعض الوقت، كون المسألة لا تتعلق فقط بتأمين ولادة رئيس جديد للجمهورية، بل باجتراح أسس جديدة لمرحلة مختلفة عن السابق كانت بدأت طلائعها مع إنجاز الترسيم البحري بين لبنان واسرائيل، وما يعنيه ذلك من سلوك سياسي للمرحلة المقبلة. وهنا لا بدّ من الاشارة إلى انّه ورغم الأحداث الكبيرة التي حصلت على الصعيدين الأمني والسياسي مع ايران، لم يتطرّق احد إلى الترسيم البحري لا من قريب ولا من بعيد، ما يؤكّد ثبات الالتزام بشروطه. هنالك من يقول: «اشتدي يا أزمة تنفرجي». وهنالك من يقول ايضاً انّ «الأمل ينبعث من قلب الدمار».