إبراهيم ناصر الدين - الديار
لم يكن المشهد اللبناني الماساوي ينقصه الا اقدام القضاء على «الانتحار» عبر انهاء حياة «جسم العدالة» المريض الموجود اصلا على اجهزة الانعاش الاصطناعية. لكن يبدو ان ثمة من قرر رفع «درجة الغليان» على الساحة اللبنانية فتزامن الانهيار القضائي مع انهيار متسارع في قيمة العملة الوطنية، وتفلت بعض «الشارع» المضبوط» حتى الآن على وقع غياب الامن الاجتماعي الذي بات قاب «قوسين» او ادنى من انفجار غير محدود في الزمان والمكان، وفقا لتقارير دبلوماسية صدرت عن اكثر من سفارة بالامس طلب منها توصيف الواقع اللبناني في الساعات القليلة الماضية، عبر مراسلات عاجلة من اداراتها المركزية، وقد اختصر احد سفراء الاتحاد الاوربي المشهد بالقول: نحن على ابواب «فوضى شاملة»!
هذه الفوضى المتوقعة لا تزال غير واضحة المعالم بحسب مرجع سياسي بارز، يرى ان ثمة احداثا متلاحقة تثير الريبة لكنها في الوقت نفسه تثير الحيرة، وهو ما يرجح وجود اداء خاطىء او حسابات خاطئة ستؤدي طبعا الى نتائج كارثية. فما حصل من تطور قضائي مفاجىء، اي «الصحوة» المفاجئة للمحقق العدلي في جريمة المرفأ القاضي طارق البيطار، تطرح اكثر من علامة استفهام حول توقيتها ودوافعها، فهي جاءت بدعم او ربما بطلب اوروبي واميركي بعد فترة من الخمول استمرت لنحو عام و3 اشهر، زيارة القضاة الفرنسيين الى بيروت واللقاء الاخير مع البيطار لم يكن فقط للمجاملة، والدعم العلني من الخارجية الاميركية لاجراءات قاضي التحقيق شكل المظلة الدولية الواضحة لحراكه، وبعض المعلومات المتداولة تشير الى ان هذه الخطوة قد نالت تاييد ودعم الوفد الفرنسي الذي حض القاضي البيطار على فعل ما يراه مناسبا لاعادة احياء القضية، مع وعد بمواكبة التحقيقات هذه المرة بتكثيف الحضور القانوني والقضائي في بيروت بعدما جرى تفعيل اتفاقية التعاون عمليا مع الاتحاد الاوروربي. لكن اذا كانت واشنطن ومعها باريس تخشى الانهيار الامني على الساحة اللبنانية؟ كيف تؤيد اجراءات «مريبة» تحمل الكثير من الانقسام والجدل القانوني قبل السياسي وفي ملف حساس سبق وادى الى احداث امنية دموية في منطقة الطيونة؟ لا اجابة واضحة على هذه الاسئلة، لكن من الواضح ان اثنين من الاعمدة المتبقية في هيكل الدولة قد انهار، تقول تلك الاوساط، كان القضاء والامن آخر ما تبقى من معالم الدولة لمنع السقوط في الفوضى العارمة، والآن تم دفع القضاء الى الانتحار عنوة، ولم يتبق من هيبته شيئا في ظل الصراع المفتوح بين مدعي عام التمييز غسان عوديات المدعى عليه من القاضي البيطار، الذي بات بالامس مدعى عليه من قبل الأول، فيما الضابطة العدلية المتمثلة بقوى الامن الداخلي تتلقى اوامر تنفيذية متناقضة من سلطتين قضائيتين سيؤدي صراعهما في نهاية المطاف الى سقوط «العدلية» بفعل اكبر «زلزال» غير مسبوق لم يحصل حتى في زمن الحرب الاهلية.
ولتكتمل «سريالية» المشهد المعقد، أعلنت السفارة الأميركية في بيروت بالامس تقديم مساعدات نقدية بقيمة 72 مليون دولار لعناصر الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي من خلال برنامج تابع للأمم المتحدة، طبعا البرنامح مؤقت لمدة 6 أشهر وسيحصل كل عنصر وضابط في المؤسستين العسكريتين على مئة دولار شهريا. وبعد سقوط «الجسم» القضائي، البلد يقف الآن على «رجل» واحدة،الامن الذي يتغذى على «فتات» مساعدة اميركية تبقيه على قيد الحياة دون ان تمنحه القدرة على استعادة انفاسه وعافيته، في المقابل تولي واشنطن اهمية لعدم حصول انهيار امني واسع تتعزز من خلاله سلطة ونفوذ حزب الله، وهي لا تريد انفلات الامور على الحدود الجنوبية التي ستصبح غير منضبطة في حال حصول انهيار كامل في البلاد. لكن هل يمكن ان تصمد هذه الاستراتيجية لوقت طويل؟ وهل يمكن لمئة دولار شهريا بان تصنع المعجزات؟ وهل يمكن لهكذا دعم «مخجل» ان يحمي تفكك المؤسسات الامنية في ظل حالة انهيار اجتماعي تتوسع كل يوم؟
حتى الآن وباقرار مصادر عسكرية، نحو خمسة آلاف من أفراد القوات الأمنية تركوا الخدمة الفعلية دون إذن منذ 2019. والأمن الغذائي للّبنانيين بات على وشك الانهيار، آخر دراسة للامم المتحدة أشارت إلى وجود مليون ونصف مليون لبناني يواجهون خطر فقدان الغذاء، وهذا الرقم مرشح للازدياد سريعا، مع الانهيار المستمر للعملة الوطنية. واشنطن تمنع استجرار الغاز والكهرباء من مصر والاردن. وتعرقل وصول هبة الفيول الايرانية، كما لا تتجاوب مع المساعي الفرنسية لتحريك الملف الرئاسي والحكومي. وتغطي اليوم تحرك القاضي البيطار، فاي تناقض فاضح في هذه الاستراتيجية العصية على الفهم؟ علما ان حرمان لبنان من العملة الصعبة والضغط على القطاع المصرفي وتشديد العقوبات، لم يؤذ حزب الله بل زاده قوة من خلال اقتصاد مواز دفع «بيئته» الى مستوى افضل معيشيا في ظل استمرار تدفق الدولار من خارج النظام المالي الرسمي!
انها الحسابات الاميركية الخاطئة مرة جديدة، واتي سيتأذى لبنان منها بشدة، فهو ترك لمصيره وبات «دولة فاشلة»، فلا رئيس للجمهورية، وحكومة تصريف الاعمال متنازع حول شرعيتها الدستورية، ولا تشريع في مجلس النواب الذي يواصل عرض «مسرحية» الانتخابات الرئاسية «الهزلية»، القضاء «انتحر»، وقبله المصارف والنظام التربوي، والقوى الامنية تعيش تحت ضغوط هائلة غير مسبوقة وكل المؤشرات تبدو سوداوية. فاذا كانت واشنطن تراهن على ايصال الامور الى حدود الغليان دون ان تنزلق الامور الى الانفجار الكبير الذي لا يتناسب مع مصالحها، فهي مرة جديدة تتعامل بسذاجة مع الاحداث لانها تريد زيادة الضغوط لمحاولة فرض تسويات لا تاخذ في الحسبان موازين القوى القائمة، وتظن انها قادرة على التحكم بالاحداث، ولهذا فان البلاد الآن في مخاض صعب وسباق مؤلم مع الوقت، حيث ترتكب واشنطن خطيئة جديدة تشبه ما حصل في افغانستان، آخر نماذج الفشل الاميركي حيث ترك الشعب يواجه مصيره المجهول، وتم تسليم البلاد للفوضى في ظل حكم «حركة طالبان»، واكتفت الادارة الاميركية بالاقرار بوجود اخطاء في تقدير الموقف. فهل ينجو لبنان من تلك الحسابات الخاطئة؟المؤشرات تبدو مقلقة.