هل يتبصّر المتبصّرون؟
هل يتبصّر المتبصّرون؟

خاص - Sunday, January 22, 2023 8:05:00 AM

النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس

 

يخاطب رب العالمين نبيه الكريم فيقول : "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَٰذَا ٱلْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِۦ لَمِنَ ٱلْغَٰفِلِينَ" وفي التفسير: نحن نقصّ عليك أحسن القصص من الكتب السماوية وأمور الله السالفة في الأمم، لأن الله أراد في محكم كتابه ألا نقع في غفلة من تاريخ الإنسانية، فقصّ علينا قصص الممالك والشعوب والكافرين والأنبياء، لما في ذلك من سياق فصول ورمزية بينة الدلالات صريحة التوجيه لأن الإنسانية وتطورها حصيلة تاريخ الأمم والشعوب.

ومن ذلك القصص حكاية يونس بن متّى عليه السلام أي يونان بن أمتّاية بالعبرية، وهو نبي عند اليهود والمسيحيين والمسلمين بعثه الله إلى أهل نينوى لدعوتهم إلى عبادته وَحْدَه، فلم يستجيبوا فغضب منهم وركب البحر، فابتلعه الحوت، والحوت بالعربية هو النون، ولذلك سُمّي في القرآن تكريماً له بذي النون لأن كلمة "ذو" فيها صيغة تشريف والعبرة المستفادة من هذه القصة، هي الصبر على الابتلاء وعلى المحن العسيرة.

ولو كان لي من مجال لأسطرة الواقع لقلت إن الشعب اللبناني ما زال يعاني كما عانى ذو النون، وهو يعيش في ظلمات بطن الحوت منذ أن جعلوا من لبنان مصرفاً صبّوا فيه مخلّفاتهم الإقليمية، وميداناً نقلوا إليه صراعاتهم، إلى أن تفاقمت الأمور عبر السنين فصار الحوت جشعاً لا يشبع، وعندما فغر شدقيه مطلقاً حممه ليشوي بيروت ويبتلعها، تصدّت له كوكبة من الإطفاء على رأسها واحد من آل نون، لكنّ اللّهب كان أسرع من مائها وراحت ألسنة النار تتلذّذ بالأجساد والممتلكات وتقول: هل من مزيد؟ مذّاك دخل الحدث إلى حوت التحقيق، ودخل لبنان كلّه إلى ظلمات الارتجال والاحتيال والتنصل، فعجزت سلطات التحقيق عن أن تقرأ بين الرماد سطراً من حقيقة، فيما الحقيقة القاطعة أن دولة يكتفي رجالها بإنجازاتهم الورقية دفعاً للمسؤولية عنهم، تحقّ عليها الإدانة وإعادة النظر ببنيتها الإدارية والسياسية ولاسيما القضائية.

شهد الأسبوع الماضي معمعة كبرى، بطلها نون آخر من سرية متماسكة وضعت هدفها عدم إطفاء الحقيقة والإبقاء على جذوتها بأشكال مختلفة، فإذ به يستدرج مجدداً إلى بطن الحوت في كمين قضائي كما وصفه الشيخ أحمد اللقيس إمام مدينة جبيل، فله التحية على أنه وضع عمامته بين القلانس، وأنطق لسانه بالحق الفضاح للهيبة الكاذبة المزعومة فأي العبارتين أفدح بحق وقار القضاء، هل عبارة: "بلّطوا البحر" أم عبارة "كمين قضائي". هزلت مؤسساتنا وبانت الكلى كما يقول المثل العربي، ذلك أن تبليط البحر صار رمزاً لقدرة العمران على تحويل المساحة المائية إلى يابسة، ولذلك فلم أرَ في العبارة ازدراء أو إهانة، ولكني رأيت في اقتحام قصر العدل تجاوزاً يستحق الملاحقة، فإذا رأى النائب العام أن توقيف زعيم المقتحمين لازم لسلامة التحقيق فهذا شأنه، أما أن يتركهم أحراراً ويتراجع عن توقيف وليَم فدليل جديد على أن القرار القضائي قبل أن يتخذ يجب أن يخضع للتمحيص ودراسة آثاره، وقياس درجة حرارة تقبله في الظروف الاستثنائية، أما إذا أوجبت الهيبة الافتراضية التوقيف، فإن التراجع كان تفريطاً بالهيبة الحقيقية، بمعنى أنه كان الأولى بالقاضي، حفاظاً على مقامه ومقام القضاء ألَّا تخضع قراراته للمزاجية والتردد والعودة عنها تحت الضغط، لأن الانطباع الذي رسخ عند الناس بأن ذلك المقام صار نهباً للشاشات والميكروفونات واستنفار الطوائف والمجموعات.

لم يتأخر الشيخ اللقيس وقال ما قال، فأثبت القاضي أنه لم ينطق عن الهوى حين أكد أن الكمين القضائي كان أمراً واقعاً لا جملة مجازية قالها الإمام على منبر التضامن والتكافل.

تبقى كلمة عن ملف انفجار بيروت، فأنوِّه أولاً بدأب أنسباء الضحايا وشجاعتهم، وأشكر الإعلام الذي يحافظ على إبقاء القضية قيد الذاكرة الجمعية والوجدان العام، وأعلن عاطفتي تجاه القاضي طارق بيطار الذي أحبّه وأقدره، لأخلص إلى أن هذه القضية قد دخلت بطن النون، ولن تخرج منه إلا بمعجزة "ذي النون"، لأن طلبات الرد والمخاصمة والنقل وإن لم ولن تفضي إلى نتائج ملموسة، فلقد أفضت فعلاً إلى تعطيل مديد لا نرى نهايته، بما ينهك الأحزان والأبدان والأرواح والطاقات والأوقات، والجثث المحترقة بالنار والظلم، علماً أن محاولة القاضي البديل تكمن لها فور تعيينه -إذا حصل- طلبات مماثلة تزيد في تفاقم العقد.

هناك مبدأ من أربعة عشر بنداً أقرته الأمم المتحدة هو بند العدالة الانتقالية (Justice transitionelle) وهو ذو النون الذي يخرج التحقيق من بطون الحصانات والصلاحيات والدفوعات، فهل يتبصّر المتبصّرون!؟

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني