جوني منيّر- الجمهورية
من خارج السياق المتوقع جاءت زيارة وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان إلى بيروت في توقيت مفاجئ. وما زاد من غموض هذه الزيارة، انّ العناوين التي طرحها عبد اللهيان خلال لقاءاته الرسمية، جاءت في اطار المواقف الكلاسيكية المعتادة، ولم تتضمن مسألة جديدة تعطي عنواناً واضحاً لأهداف هذه الزيارة، وهو ما جعل المسؤولين اللبنانيين يخرجون بانطباع بأن لا شيء جديداً يحمله عبد اللهيان ويستدعي هذه الزيارة المفاجئة، وسط ظروف ضاغطة يمرّ فيها الشارع الايراني. لكن ثمة لقاء وهو الأهم، لا بدّ انّه تضمّن العنوان الحقيقي لمهمّة عبد اللهيان في بيروت، والمقصود هنا طبعاً الاجتماع مع امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله.
صحيح انّه من سابع المستحيلات استكشاف مضمون الرسالة التي حملها المسؤول الايراني لنصر الله، لكن هذا لا يعفي من إجراء قراءة للتطورات الاقليمية، والتي تشهد دينامية متحركة من الممكن ان تنتج ظروفاً جديدة في حال كُتب لها النجاح. ذلك انّ عبد اللهيان توجّه من بيروت إلى دمشق، والتي على ما يبدو كانت وجهته الأساسية. فمنذ اسابيع معدودة، وتحديداً مع نهاية العام الماضي، كان وزيرا خارجية تركيا وسوريا يلتقيان للمرة الاولى منذ العام 2011 تاريخ اندلاع النزاع في سوريا، تحت رعاية وزير الخارجية الروسي في موسكو.
وتردّد إثر ذلك في الكواليس الديبلوماسية الضيّقة، بأنّ تركيا عرضت كبديل عن قيامها بحملة عسكرية في شمال سوريا، ان يجري تطبيق اتفاق «أضنة» ولو بعد إدخال «تحديثات» على بعض بنوده.
وهذا الاتفاق كانت قد وقّعته أنقرة مع دمشق في العام 1998، إثر تفاقم الخلاف حيال نشاط «حزب العمال الكردستاني»، والذي كان يحظى بغطاء النظام السوري.
وقضى الاتفاق يومها بوقف الدعم السوري للفصيل الكردي وترحيل زعيمه عبد الله اوجلان إلى خارج الاراضي السورية، وإغلاق معسكراته في سوريا ولبنان، ووقف تنقّل المقاتلين الاكراد من لبنان إلى سوريا، وفي حال نقض الاتفاق، يحق لتركيا ملاحقة الاكراد حتى عمق 5 كلم داخل سوريا.
وللتذكير، فإنّ غازي كنعان شارك يومها في المفاوضات من الجانب السوري، كونه كان شغل مسؤولية رئيس الأمن والاستطلاع للقوات السورية العاملة في لبنان.
ومن هنا، فإنّ زيارة عبد اللهيان إلى دمشق جاءت للتمهيد لزيارة الرئيس الايراني، والتي سيقوم بها إلى دمشق وانقرة على التوالي. وتتردّد بعض التخمينات بأنّه ليس من المستبعد ان يلتقي الرئيس الايراني بأمين عام «حزب الله». لكن الملف السوري - التركي، والذي تمتد تشعباته إلى لبنان، ليس الملف الوحيد الذي يفرض نفسه في هذه المرحلة ويفتح آفاقاً اقليمية جديدة. ثمة ملف آخر يفوق حساسية، ويتعلق بأمن دول الخليج انطلاقاً من حرب اليمن. صحيح انّ الهدنة لا تزال قائمة منذ بضعة اشهر لأسباب مختلفة، لكنها هدنة هشة لا ترتكز على مقومات صلبة ومتينة، ومعرّضة للانهيار عند اي لحظة، وهنا بيت القصيد. فخلال المرحلة الماضية نجحت قطر في إطالة أمد هذه الهدنة لأسباب تتعلق بتأمين الاستقرار خلال استضافتها «مهرجان المونديال». لكن البحرية الاميركية كانت تعلن دائماً عن احتجاز سفن محمّلة بالسلاح ووجهتها اليمن، وهو ما يعني انّ الاستعدادات لاستئناف المعارك لا تزال قائمة على قدم وساق. وهنا ايضاً لا بدّ من التذكير بالعلاقة الجيدة القائمة بين قطر و«حزب الله»، حيث التواصل قائم بينهما، وايضاً للحركة التي تولتها قطر تجاه لبنان حيال الاستحقاق الرئاسي، والتي عادت وتوقفت فجأة نتيجة نصيحة اميركية لها علاقة بالتوقيت وليس بالمضمون.
وما بين ملفي سوريا واليمن، ثمة تحدّيات أساسية تواجهها ايران. فعدا الحراك الداخلي الذي يُشغل السلطات الايرانية، والاعلان عن اختراقات استخباراتية وصلت إلى عمق التركيبة السياسية، هنالك «السلوك المجنون» الذي يمكن ان ينتج من الحكومة الأكثر تطرّفاً في تاريخ اسرائيل، وهذا ما يقلق واشنطن.
صحيح انّ الرئيس الاميركي جو بايدن غارق في الصراعات السياسية الكبيرة، وآخر الفصول الفضيحة التي طالته، الّا انّ الادارة الاميركية لا يمكن ان تغيب عن الأحداث التي تدور في العالم، خصوصاً انّها تشكّل تحدّياً للمصالح الاميركية.
خلال النصف الاول من ولايته، كان بايدن محظوظاً إلى حدّ كبير لأنّه لم يتورط في وحول الشرق الاوسط، لكن ذلك لن يدوم طويلاً على ما يبدو.
صحيح انّ حرب اوكرانيا وتحدّي الصين يشكّلان أولوية السياسة الخارجية لواشنطن، لكن ثمة خمس ساحات معرّضة للانفجار، قد تدفع ادارة بايدن للانزلاق اكثر في الشرق الاوسط وهي: العراق، اليمن، سوريا، ليبيا ولبنان.
وفي وقت تسعى فيه دول الخليج العربي للعمل باستقلالية اكبر عن سياسة واشنطن، ولكن من دون الخروج من تحت عباءتها، فإنّ الحكومة الاسرائيلية الجديدة تحمل مشروعاً سيتسبب بانفجار واسع مع الفلسطينيين في الضفة العربية، وبتقريب مسافة المواجهة مع ايران بسبب البرنامج النووي.
وسيترافق ذلك مع ارتفاع مستوى الصراع الاميركي الداخلي بين «الجمهوريين» المحشورين بسبب دونالد ترامب، ما سيدفعهم للمزايدة والمطالبة بفتح ابواب الدعم لاسرائيل، وما بين الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي والمعارض للحكومة الاسرائيلية.
لا شك بأنّ المواقف المتوترة لأعضاء الحكومة الاسرائيلية تدفع إلى القلق. وكان لافتاً ما قاله وزير الدفاع الاسبق بيني غانتس، حين كان يستعد لتسليم موقعه، بأنّ الحاجة لمنع برنامج ايران النووي بالطريقة العسكرية، امر يحظى بموافقة معظم القوى السياسية الاسرائيلية.
من جهتها، تدرك ادارة بايدن بأنّ اسرائيل جهّزت خططها وتحضيراتها للقيام بضربة عسكرية، لكنها تبقى عاجزة عن التنفيذ من دون المساعدة الجوية الاميركية.
وجاء تحذير رئيس الوزراء القطري الأسبق حمد بن جاسم من خلال تغريدات على «تويتر» ليضع الامور في نطاق آخر. فهو تحدث عن عمل عسكري محتمل قد يهزّ دول الخليج، وستكون له عواقب اقتصادية وسياسية واجتماعية وخيمة، وسنكون اول الخاسرين. وأوضح انّه يقصد التحذير من ضربة اسرائيلية للبرنامج النووي الايراني.
وبالتالي، فإنّ الابواب المفتوحة بخفر على احتمالات التسوية في سوريا واليمن، تواكبها مشاريع اسرائيلية مجنونة، وسط تحركات شعبية ايرانية تزعج السلطات.
لا شك انّ التسويات قابلة لأن تفتح فرصاً جديدة تطال لبنان، أما الانفجار العسكري فسيؤدي الى لهيب يبدأ في سوريا ولبنان ولا ينتهي في الخليج.
ثمة وجهة نظر ديبلوماسية تقول، بأنّ تحركات الشارع الايراني يمكن تثميرها لصالح تدوير الزوايا وإنجاز التفاهمات او العكس.
الاستنتاج الأولي يؤشر الى انّ التفاهم مع تركيا لا بدّ ان تواكبه سلطة في لبنان قادرة على ضمان مفاعيله على الاراضي اللبنانية. وكذلك، فإنّ نجاح جهود قطر ومعها سلطنة عمان في ترتيب تسوية ايرانية - سعودية تؤدي الى إنهاء الحرب في اليمن وعودة التمثيل الديبلوماسي بينهما، سيدفع فوراً لمناخ جديد سيستفيد منه لبنان حكماً وفوراً.
ابواب التسويات لها حظوظها، كما ابواب التصعيد والذهاب إلى الانفجار ايضاً. وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ الموازنة الايرانية الجديدة، وعلى الرغم من الاوضاع الداخلية الصعبة، لحظت رفع الموازنة العسكرية بنسبة 5%، ولو على حساب التحسينات الاجتماعية، وهذا له مدلولاته.
لكن التوقعات تقول بأنّ الاقتصاد الايراني بحاجة ماسّة لإعادة اجتراح حلول خلاقة ومرنة، وهو ما تؤمّنه التسويات لا المواجهات. ولأنّ اوروبا تدرك بأنّ ادارة بايدن بحاجة لها في الشرق الاوسط، تندفع فرنسا ومعها المانيا من خلال لبنان. كما تستمر باريس في تفعيل دورها مع السعودية.
وخلال الاسابيع الماضية، تواصلت السفارة الفرنسية مع «حزب الله» وفق قناتها المعتادة، وجاء التواصل استكشافياً اكثر منه عملياً، وكانت الاسئلة لـ«حزب الله»: ما هي أفكاركم للخروج من الأزمة؟ ماذا لديكم من تصوّر؟ والى أين ستتجّه الامور برأيكم؟ وهذه الاسئلة مصحوبة بتفاؤل فرنسي بقرب إيجاد حل للأزمة اللبنانية.
وعلى خطٍ موازٍ، وبعد الزيارة التي قام بها السفير السعودي في لبنان إلى باريس، عاد إلى السعودية حيث سيبقى لوقت غير محدّد، كما يتردّد.
والاكتفاء الفرنسي بجسّ النبض، والغياب السعودي والتحرّك الايراني «الغامض» باتجاه «حزب الله»، يعززان الانطباع بوجوب مواكبة الحركة الاقليمية ولكن بحذر.
وهو ما يدفع بالتالي لبعض الرؤوس الحامية بتوخّي الحذر لا الاندفاع خلف الغرائز، كي لا يكون لبنان مرة جديدة «فرق عملة» في سوق القطع الاقليمية.