ندى أيوب - الأخبار
خمسة أشهرٍ من الاعتكاف القضائي تنتهي اليوم، بعدما أيقن القضاة أن لا حلول جدّية في الأفق يمكن أن تقلب أوضاعهم المعيشية رأساً على عقب، إنما ترقيع على شكل إضافاتٍ مرحلية على الراتب معدّلها الوسطي حوالي 900 دولار شهرياً، تستمر حتى نهاية حزيران، مع وعودٍ بتمديدها حتى نهاية العام. ارتضى القضاة بهذا الحصاد غير المتناسب وثمن الاعتكاف الباهظ على المتقاضين أولاً والمجتمع ثانياً، لإدراكهم أن هذا أفضل الممكن راهناً، بعد سقوط التعويل على السلطة السياسية غير الآبهة لا بحقوق قضاة ولا بمصائر المتقاضين.
لم يأت بيان مجلس القضاء الأعلى الأخير الخميس الفائت، حاملاً دعوة القضاة للعودة إلى ممارسة مهامهم، إلا بعد توحيد الموقف بين المجلس والقاعدة القضائية. وهو ما ظهر في اجتماع الجمعية العمومية الثالثة للقضاة في 28 كانون الأول الماضي، وطبعت بأجواء من التناغمِ بين المجلس وغالبية قضاة لبنان حيال الاعتكاف، على عكس التنافر الذي حكم العلاقة بين الطرفين منذ بداية التوقف عن العمل. أهم ما ورد في بيان مجلس القضاء الأعلى أنه حدد تسيير عمل المحاكم «بما يتناسب مع حاجات ووضع كل محكمة ودائرة قضائية وفقاً للإمكانيات المتاحة». بمعنى أنه لم يطلب من القضاة الحضور بالشكل الذي كان سارياً قبل الاعتكاف، بل جعل الأمر خاضعاً لتقديرهم الشخصي انطلاقاً من إمكانياتهم وحاجة محاكمهم وقابلية العمل فيها، بُعدِها أو قُربِها من مكان السكن، وغيرها من الجوانب ذات الصلة. أجواء القضاة تضع ذلك في خانة «إدراك المجلس لصعوبة الأوضاع وأحقية المطالب».
تتمحور خلفيات فك الاعتكاف في شقّين: معنوي ومادي. في العنوان الأول، ينقل متابعون أن القاعدة القضائية تشعر بنوع من الرضى المعنوي، بناء لأداء مستجد من مجلس القضاء الأعلى حيالها، بعد أن كان في حالة انفصال تام عن معاناة القضاة في أشهر الاعتكاف الماضية. أما مادياً، فقد حملت الأيام الأخيرة تطمينات من صندوق تعاضد القضاة حول ما تقاضاه القضاة في الأشهر الثلاثة الماضية من منحٍ شهرية تتراوح قيمتها بين 500 و1000 دولار نقدي، أن «هناك برمجة وجدولة لدفعها لستة أشهرٍ مقبلة على الأقل». وهذه المنح ممولة من سلفتي خزينة تلقاهما الصندوق في الأشهر الماضية، بقيمة 55 مليار ليرة. ما هو مضمون أن القضاة سيقبضون المنحة الأخيرة نهاية حزيران. بعدها تبدأ العطلة القضائية وتمتد من 15 تموز وحتى 15 أيلول. لغايته لا شيء محسوماً بالنسبة للنصف الثاني من العام، إنما مصادر قضائية تؤكد أن «المنح لن تتوقف قبل نهاية 2023، استناداً لوعود من وزير العدل هنري خوري بتأمين سلف خزينة مماثلة لتغذية الصندوق. أما استمرارها لأكثر من عام فهو مدار نقاشٍ وبحث». يضاف إليه صرف رواتب القضاة منذ تشرين الأول وفقاً لما أقرّ في قانون موازنة 2022 (ضعفا الراتب على أن لا يتعدى 12 مليون ليرة). ليصبح مجموع الزيادات على الراتب بالليرة والدولار حوالي 900 دولار كمعدّل وسطي. وباتت الرواتب تتراوح بين حدين أدنى وأعلى (750 و1500 دولار).
حاول القضاة إقناع أنفسهم بأن في ذلك «استقراراً مادياً في المدى المنظور». وهم كانوا منذ حوالي شهرين يبحثون عن مخرجٍ للنزول عن شجرة الاعتكاف، أمام عبثية الوضع وغياب السلطات الدستورية عن الوعي تجاه البلد عامة والقضاة خاصة. وأجواؤهم تقرّ بأن «الاستمرار في الإضراب كان غير ممكن ويضعنا أمام مسؤولية وطنية نتيجة طول المدة». في المقابل، لم يملك القضاة ترف التراجع فارغي اليدين حفاظاً على ماء الوجه، فشكّلت المنح وزيادة الرواتب باباً «لالتقاط الأنفاس وإعطاء فرصة للعمل على زيادة موارد صندوق التعاضد عبر الرسوم وغيرها».
عملياً، ستكون هناك فترة من الضغط لإنهاء الملفات والجلسات المتراكمة طيلة أشهر الاعتكاف، لتبقى أزمة الوضع اللوجيستي لقصور العدل والمحاكم خارج أي تصور أو حل. ففي قصر عدل بعبدا المراحيض معطّلة، قصر عدل بيروت من دون كهرباء، وفي جديدة المتن تغمر قصر العدل المياه. وفيما كافة المحاكم تفتقد للمكننة، ولم تدخل بعد عصر الإنترنت، فإن الأوراق وحبر الطباعة لوازم غير متوافرة، والتدفئة غير متاحة في محاكم المناطق الجبلية. ولم تخجل الدولة بمجلس قضائها ومسؤوليها كافة من تحوّل قصور العدل إلى أكواخ مهترئة مليئة بالنفايات المكدسة في طوابقها، منذ أن توقّفت الشركة المتعهدة للتنظيفات عن العمل قبل عام. لتعود فجأة في اليومين الماضيين وتقوم بحملة تنظيف شاملة «استقبالاً للوفد القضائي الأوروبي» كما ترجّح المصادر.