لا تكفّوا عن الابتكار
لا تكفّوا عن الابتكار

خاص - Sunday, January 8, 2023 9:01:00 AM

النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس

وردني من معالي الصديق النقيب سمير الجسر مقطع لفضيلة المرحوم الشيخ محمد المتولي الشعراوي يروي فيه بعض نوادر علماء اللغة المتقعرين الذين يلجؤون إلى الألفاظ الشاذة والمهجورة في مخاطبة الناس، وذلك في دعوة منه إلى تجنّب هذه الأساليب واستعمال أيسر العبارات للوصول إلى عقول المخاطبين.

ومن تلك النوادر، أن لغويًّا يسمى أبا علقمة النحوي كان مولعًا بغريب الكلام، وله غلامٌ قد انقطع إليه يخدمه، فأراد أبو علقمة البُكورَ في حاجةٍ، وكان غلامه قد ضاق من كلامه فقال: يا غلام أصَقَعَتِ العتاريف؟! فقال الغلام له: زقفيلم. قال أبو علقمة: وما زقفيلم لم أسمع بها من قبل؟! قال: وما صقعت العتاريف؟! قال: إنما قصدت هل صاحت الديكة؟ فقال الغلام: وأنا قصدت أنها لم تَصِحْ... نم يا سيدي !!

من الألفاظ المهجورة السائدة اليوم على الساحة اللبنانية أن يسألَ الشعب اللبناني وزير الطاقة: هل خرجت الأسلاك من حالة الإمساك؟ أي هل سار التيار الكهربائي في خطوط التوتر؟ فيجيبُهم الوليد: زقفيلم أي لم تأتِ الكهرباء بعد، ثم يضيف محاكيًا سميَّه الخليفةَ الخليعَ الوليدَ بنَ يزيد ومخاطباً النور بفصاحة همجية:

إذا قابلت قومك يوم عتم

فقل يا قوم أطفأني الوليد

هكذا إذًا، أصبحت الكهرباء لغة مهجورة من شواذ الكلم رغم أنها منذ عقدين تملأ الحالة السياسية بالعتمة أربعًا وعشرين على أربعٍ وعشرين، وتنظّف جيوب المواطنين من الأرصدة والمدخرات وتجعل المصارف بيوتًا سيئة السمعة، في حالة غير مسبوقة من قبل، إذ تصر جهة بعينها على تولّي وزارة الطاقة بتبديل وزارئها كما تبدل الدمى، ويبقى القرار في مكان واحد، لا يستجيب لأي حل ولا يفسح مجالًا لسواه كي يبتكر حلًّا ما. وهو في هذا الجرم الموصوف شريك للحضرة السياسية من دون استثناء التي ترضخ لهذا الاستعصاء فتكون بهذا موافقة على سَفَه الإدارة وإفلاس الخزينة. المفارقة العجيبة أن مئات قليلة ممّن يحسنون الاستثمار أيام النكبات استطاعوا أن يقيموا منظومة ناجحة تؤمن وصول النور إلى المنازل بتكلفة باهظة وتعسُّف لا مجال لردّه.

 ومن يشاهدْ على الشاشات بعض هؤلاء الذين لم يتلقّوا شهادات عليا في الإدارة، يجدْهم يتكلمون لغة بسيطة لا تنتمي إلى أبي علقمة النحوي، لكنها غنية بالعلقم الظالم والمرارة التي تجعلنا أحيانًا نفضّل ظلمة التيار الوطني على النور المعلق مجانًا وقرصنةً على شبكات شركة الكهرباء. وما بين زقفيلم الوليد وقول أصحاب المولدات للناس هاتوا ما في جيوبكم، حقَّ لنا أن نسأل مع أمير الشعراء:

فمن عونُ اللغاتِ على مُلِمٍّ أصابَ فصيحَها والأعجميّا؟

يوم الأحد الماضي، سألتُكم أن لا تكفّوا عن الحلم، والآن أناشدكم كما أناشد رئيس الحكومة ومن تبقّى معه من مُصرِّفي الأعمال أن لا تكفّوا عن الابتكار، فنحن شعب رادة، لذلك أسمح لنفسي الآن أن أذكّر ببداية كانت مبشّرة جدًّا، عندما تشكّلت لطرابلس شركة سُمّيت بنور الفيحاء يرئِسها رجل ناجح وموثوق ودمث ومحبّ للناس وللخير هو عثمان غندور بعد دراسة قانونية حاذقة ومفصّلة أعدّها المرحوم النقيب بسام الداية تقوم ببيع التيار الكهربائي لشركة قاديشا وهي شركة من شركات القطاع الخاص تملك معظم أسهمها كهرباء لبنان، وذلك بأسعار مدروسة جدًّا تؤمن دوام الكهرباء في نطاق امتياز الشركة دون إرهاق للمواطنين، لكنني أرى حظ الابتكار عاثرًا في مدينة طرابلس، فلو أنّ الشركة استعادت العزم وتملّصت من المنظومة الذرائعية التي هي أخت بالرضاعة لمنظومة "ما خلّونا" وأنجزت ما بدأته لكانت نموذجًا تستطيع محاكاتَه اتحاداتُ البلديات والمؤسساتُ الاستثمارية وذلك وفقًا لمعايير مضبوطة وواضحة.

ومن الأسف، أنهم ابتكروا لنا الباخرة الغول التركية الجنسية وراحوا يترجمون إنتاجها سمسرات فاضحة، ثم حلّت محلّها المسلسلات التركية التي غزت البرامج اللبنانية مدبلجة إلى لغة لا يرضى عنها أبو علقمة في مشاهد لا تنتهي، وكأنه كُتِب علينا أن نتحوّل إلى جمهور من المتلقّين العاجزين عن الابتكار واجتراح الحلول.

من أخبار أبي علقمة النحوي أيضًا أنَّ ابن أخٍ له قدم إليه فسأله العمُّ: ما فعل أبوك؟ أجاب: مات. فسأله ثانيةً:

وما فعلت علّته؟ فقال: ورمت قدميه. قال أبو علقمة: قل قدماه.

فتابع ابن أخيه: وارتفع الورم إلى ركبتاه. قال: قل: ركبتيه

فقال الصبي: دعني يا عم فما موتُ أبي أشدَّ عليَّ من نحوك هذا.

لقد تورّم الوطن من قدميه إلى رأسِه ومات أو كاد، وما زالوا يتلهّون بنحوهم المقيت وسجالاتهم المشحونة بالأفكار المهجورة والفرصِ المهدورة.

 ألا تبًّا لهذه اللغة بفصيحها ومهجورها.

| لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp) اضغط هنا

 

تسجل في النشرة اليومية عبر البريد الالكتروني