كارين عبد النور - نداء الوطن
يقول كثيرون - بشيء من الخبث -– إن دخول الدولار الجمركي حيّز التنفيذ امتص وهج توقّف العمل في مراكز النافعة المشرّعة على إجراءات قضائية أكثر من جدّية. فآلاف السيارات عالقة حالياً في المرفأ نتيجة «طيران» الرسوم الجمركية. وعمليات البيع والشراء ستتأثّر حكماً بذلك هي الأخرى. أوكسيجين النافعة هو حركة البيع والشراء تلك. لا شك. لكن الملف القضائي المفتوح ثقيل للغاية. والخروج منه بنتائج حاسمة سيكون عبرة لمن يعتبر. إنه سباق محموم مع التدخّلات والوقت.
تحدّيان أساسيان يبرزان في الملف بنظر المتابعين: صمود قاضي التحقيق الأول في جبل لبنان، نقولا منصور، أمام الضغوطات والتدخلات؛ والقدرة على إعادة تفعيل هذا المرفق الحيوي ريثما يكتمل المشهد القضائي فصولاً. ونتكلّم هنا عن مهمة لا يُحسد عليها محافظ بيروت القاضي مروان عبود - تكليفه رئاسة هيئة إدارة السير والآليات والمركبات – والعقيد في قوى الأمن الداخلي علي طه - رئيساً لمصلحة تسجيل السيارات بالتكليف - كبديلين عن هدى سلوم وأيمن عبد الغفور.
المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان، القاضية نازك الخطيب، ضربت بِيَد من حديد خاتمة التحقيق رغم كل التضييقات التي مورست عليها. والقاضي منصور يكمل من بعدها. غير أن مصدراً قضائياً أكّد لـ»نداء الوطن» ممارسة ضغوط هائلة على الأخير لإغلاق الملف. وها هو قد قام يوم البارحة بإبطال محضر تحقيق واحد في الملف وهو ملف سلوم. هل هذه مقدمة لإخلاء سبيل الأخيرة؟ لا نعلم. لكن قرار الهيئة الاتهامية برئاسة القاضي بيار فرنسيس بتصديق الإبطال أو عدمه، كفيل بالإجابة على ذلك.
نعود بسرعة إلى محاولة أولى لإغلاق الملف باءت بالفشل بعد ردّ محكمة الاستئناف المدنية في جبل لبنان دعوى الردّ المقدّمة من سلوم ضدّ القاضية الخطيب. لكن قد يكون لسان حال المحاولين أن في الإعادة إفادة. فقد جزم المصدر القضائي نفسه أن مساعي تعطيل العدالة في الملف لم تتوقّف وآخرها اتهام الخطيب بتجاوزات غير قانونية في أثناء التحقيق مثل عدم الاستعانة بكاتب وبالقوى الأمنية. ويكمل المصدر مستغرباً: «لو حصل التحقيق بوجود كاتب، ولو استلمت القوى الأمنية المهمة بنفسها، هل كانت الخطيب لتتمكّن من توقيف سلوم؟ طبعاً كان من الأسهل عليها الاستعانة بهؤلاء لكن طابع السرية فرض عليها حماية التحقيق للوصول إلى الرأس».
المصدر يتابع أن هناك ألف سببٍ وسببٍ للتذرّع في معرض نقد تحقيق الخطيب بالشكل وبالتالي إغلاق الملف. لكن هناك أيضاً ألف سببٍ وسببٍ لتأكيد صحته. فثمة إثباتات بالأدلة والبراهين، ومعطيات عملية تقنية بحتة بعكس ما جرى عام 2019 حيث كان الملف يومها سياسيّ الطابع بامتياز. ويختم أن ليس من المقبول الوقوف عند نقطة شكلية لنسف التحقيق بأكمله وتطيير جهود الخطيب. لننتظر ونرَ.
جيوب منتفخة وخزينة فارغة
وزير داخلية أسبق أشار في اتصال مع «نداء الوطن» إلى ثلاث إدارات لو تمّ ضبطها لما احتاج البلد إلى صندوق النقد الدولي ولا لأي مساعدات خارجية للخروج من حفرته: الدوائر العقارية، مصلحة تسجيل السيارات وإدارة الجمارك. «لكن لسوء الحظ، هل دخل أحدهم إلى إحدى هذه الإدارات ولم يغتنِ؟ فبدلاً من أن تقوم هذه المصالح بتغذية خزينة الدولة، هي تغذّي جيوب الموظفين من دون حسيب أو رقيب، لدرجة أصبح فيها بديهياً الشك بأن هناك جهات سياسية فاعلة توفّر الحماية والدعم»، كما يضيف.
وتساءل الوزير الأسبق: «لا أدري كيف أمكن إعادة سلوم إلى مركزها بعد توقيفها سابقاً. كان حرياً تعيين بديل عنها فوراً على غرار ما حصل راهناً. فالوزير بسام مولوي محق بما فعل... وما بقا تظبط غير هيك». ويكمل: «صحيح أن الأنظار متّجهة اليوم إلى مركزي الدكوانة والأوزاعي حصراً، لكن لو تمّ فتح ملف مركزي طرابلس وزحلة بهدف تطبيق القانون بحذافيره، لما بقي أكثر من 2% من الموظفين خارج السجن. السرقة والرشوة معمّمتان خاصة في ظلّ الأوضاع الراهنة حيث يُضطر المواطن إلى «برطلة» الموظف الذي لا يلتحق بدوام عمله سوى يوم أو اثنين أسبوعياً للإسراع في تمرير معاملته». السماسرة أصبحوا يتقاضون أكثر من الدولة، يخبرنا الوزير الأسبق، ولا سبيل لضبط الأمور إلّا برفع المسؤولين أيديهم عن الملف إفساحاً في المجال أمام القضاء ليحكم بعيداً عن التسييس والمحسوبيات.
شلل وفوضى
إلى أرض الواقع ننتقل ونسأل مصدراً مطّلعاً داخل مصلحة تسجيل السيارات عن التطوّرات التي تلت التعيينين بالتكليف وعن مصير المعاملات العالقة بالآلاف. نسمع بداية أن الصعوبات كثيرة: الأولى عدم إقرار الموازنة منذ ثلاث سنوات، ما يعرقل تأمين الكثير من المواد التشغيلية وأبرزها مادة المازوت؛ الثانية عدم دفع أجور المستخدمين منذ حوالى ثلاثة أشهر بسبب التوقيفات. ففي مركز الدكوانة وحده، هناك ما يزيد عن السبعين موقوفاً في حين أن موظفي مركز الأوزاعي كافة موقوفون باستثناء اثنين فقط لا غير. وماذا بعد... الأقسام بمعظمها مغلقة تماماً، لا سيما السياحية والخصوصية منها، في حين أن المستودعات مقفلة بالشمع الأحمر. أما صكوك البيع وإيصالات المالية فغير متوفرة لعدم قدرة الشركة المشغّلة على تأمينها بسبب فروقات العملة.
وإن كانت المعوّقات لا تكفي، تتكفّل الفوضى الإدارية بالباقي. «لا هيكلية للهيئة والمسؤوليات متداخلة وغير واضحة. كان هناك نوع من الاحتكار في العمل بين سلوم وعبد الغفور، وكأننا في دكّان العيلة»، كما يقول المصدر. ما الحل إذاً؟ التوظيف بحاجة إلى قرار من مجلس الخدمة المدنية وتتم حالياً دراسة إمكانية نقل فائض موظفي الإدارات العامة للحلول مكان أولئك الموقوفين، لكن هذه العملية تستغرق ما لا يقلّ عن ثلاثة أشهر من التدريب المكثّف. والسباق مع الوقت يتواصل.
المواطن والوقت المهدور
ما الذي ينتظر المواطن في الأيام المقبلة؟ سؤال يقض مضاجع أصحاب المعاملات العالقة. فقد أشار المصدر إلى أنه سيتم فتح أبواب مركز الدكوانة اليوم لتسليم رخص سير المركبات وفك حجوزات الميكانيك للمواطنين الذين سدّدوا المستحقات في المالية. أما بالنسبة لرخص السوق، فهناك حوالى 3 آلاف دفتر بانتظار إكمال بصمة أصحابها قبل التسليم. ويمكن البدء بالعمل بباقي المراكز بشكل طبيعي شرط تأمين مادة المازوت وصكوك البيع وإيصالات المالية... لا أكثر. لكن مهلاً. مشكلة أولى هنا تتمثّل في رفض الموظفين الإلتحاق بمكان عملهم بسبب عدم تقاضي رواتبهم. وأخرى يتطرق إليها المصدر حول النصوص القانونية التي يرد فيها أن الموظفين الوحيدين الذين يمكنهم القيام بدور الكاتب العدل هم من حلفوا اليمين أمام القاضي المنفرد. وهؤلاء جميعاً موقوفون حالياً. الفترة الانتقالية قد تطول، إذاً. لكن الأمور تعتمد، بحسب المصدر، على تأمين الموظفين وتدريبهم ومعالجة بعض النواحي العملية لتسهيل عمل الإدارة والمواطن على حدّ سواء، مثل: القيام بالكشف على السيارة تزامناً مع الميكانيك، أو إتمام عقد البيع وتصديقه عند الكاتب العدل أو حتى مزيد من الارتكاز على المكننة ما يساهم في تخفيف الازدحام وتسريع المعاملات.
الأولويات... بتأنّ
في حديث مع «نداء الوطن»، شدّد محافظ بيروت القاضي مروان عبود بداية على أن الأولوية هي لإعادة تفعيل العمل في مصلحة السير خدمة للمواطن. «عملنا على تنظيف المبنى وتأهيله ليصبح لائقاً بِمَن سيدخل إليه، كما قمنا بتعيين مراقب عقد نفقات لإنجاز الوظائف الأساسية. وعقدنا اجتماعاً لمجلس الإدارة لبحث خطة سريعة للنهوض بالمؤسسة كما نعمل على إيجاد الوسائل المتاحة لزيادة الاعتماد على المكننة وبالتالي تخفيف الاحتكاك بين المواطنين والموظفين»، كما يشرح.
الأمور تُدرَس دون تسرّع وبتأنّ شديد تجنّباً لاتخاذ أي إجراء غير سليم، والكلام لعبود. لكن المعوّقات تحول دون المباشرة بتنفيذ أي منها، إذ تعاني المصلحة من نقص في دفاتر السير حيث الكمية الموجودة تكفي ليومين فقط. أما شركة «انكربت» فما زالت متوقّفة عن الخدمة لعدم تسديد الدولة لمستحقاتها منذ أكثر من ثلاث سنوات. مع العلم أن توسيع نطاق الخدمات يحتاج إلى موازنة غائبة منذ أعوام ما يجعل الواقع السيئ أكثر سوءاً. ألم نَقُل مهمة لا يُحسد عليها أحد...
ترقّب وحذر
كيف السبيل إلى تعويض الموظفين الموقوفين حالياً؟ يفيدنا عبود أن العمل جارٍ مع رئيس مجلس الخدمة المدنية لبحث إمكانية الاستفادة من فائض موظفي القطاع العام. لكن بالمقابل، الموظفون الذين لم يتم توقيفهم ما زالوا ممتنعين عن الحضور إلى العمل كونهم لم يتقاضوا رواتبهم، التي لا تتعدى أساساً الـ800 ألف ليرة، منذ أشهر طويلة. لذا تتم دراسة خيارات تأمين الرواتب تلك. وهذا أشبه بحلقة مفرغة.
عبود أمل أن يدبّ النشاط تدريجياً في شرايين النافعة خلال أسبوعين كحدّ أقصى. فالتوقّف عن العمل في إدارة السير من شأنه التأثير سلباً على عاملين أساسيين، كما يضيف: الأول مصالح المواطنين كون قطاع السيارات - ومرفق عام السير - هو قطاع كبير يمسّ كل بيت وأسرة. والثاني الخسائر التي يسبّبها التوقّف بالمليارات على صعيد إيرادات الدولة التي تعاني الأمرّين أصلاً.
وإذ لفت إلى ضرورة العمل الجدّي على وضع باصات الهبة الفرنسية في السير بعد تخليص معاملاتها العالقة في غياهب البيروقراطية الإدارية، ختم عبود بالقول «العين بصيرة واليد قصيرة». وتبقى العين الأبرز على القضاء وما ستؤول إليه تطورات الملف لأن التجارب السابقة، للأسف، تدعو لكثير من الحذر.