كتبت هيام القصيفي في "الأخبار":
في المراحل المشابهة لما يجري حالياً من تطبيع للوضع الداخلي بلا احتدامات مباشرة، يغيب الكلام عن الحزب التقدمي الاشتراكي، في انتظار مزيد من التبلور لاتجاهات الاستحقاق الرئاسي. حينها يعود رئيس الحزب وليد جنبلاط إلى الواجهة. إذ تراجع الكلام عن دوره كبيضة قبان، في مرحلة لا تشهد بعد احتداماً فاقعاً، بعدما توجهت الأنظار إلى النواب «التغييريين» قبل أن تعم الخلافات بينهم وتظهر مدى هشاشتهم. إلا أن موقع جنبلاط السياسي، في قراءة موقفه الرئاسي، يتعدى عدد الأصوات التي تمنحها كتلته لأي مرشح.
لا يزال جنبلاط يؤيد ترشيح النائب ميشال معوض لرئاسة الجمهورية، أو بالأحرى هو مستمر في تأييد وضع اسمه في صندوق الاقتراع حتى الآن، من دون أن تخرج إلى السطح بعد أي تباينات بينه وبين القوى المعارضة، ولا سيما القوات اللبنانية التي يختلف معها على بعض المسارات السياسية الداخلية. علماً أن من بين قوى المعارضة من يتوجس، مرة تلو أخرى، من قيامه بحركة ارتدادية. لكن لرئيس الحزب التقدمي حسابات كثيرة تتعلق بمستقبل التسوية التي سيتم التوصل إليها في نهاية المطاف. ونهاية المطاف حتى الساعة، بحسب مصادر سياسية، تعني أخذ الفراغ إلى حدّه الأقصى بحيث يمكن أن تستقيم معه تسوية الإتيان بقائد الجيش العماد جوزف عون، حين يستنفد المسيحيون مرحلة الاعتراض على عدم إجراء التعديل الدستوري للإتيان به أو الاتفاق على اسم توافقي شكلاً، فتصبح الأولوية حينها للانتخاب الذي قد يتقدم على الاسم الذي لا يرضي كافة المسيحيين.
لكن، حتى الآن، لن يخرج جنبلاط من عباءة التوافق مع القوى المعارضة، وهو لاحقاً لن يخوض معركة تجاه القوى المسيحية من المعارضة أو التيار الوطني الحر في اختيار الرئيس الجديد للجمهورية، رغم ما بينه وبين التيار من اختلافات جذرية طبعت سنوات العهد وما قبله. ومع أن الرئيس نبيه بري الذي يعد من أكثر القادرين على إقناع جنبلاط بتسوية حكومية أو استعادة الترويكا الماضية من خلال تأييد رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، إلا أن بري لم يتمكن من نيل مباركة جنبلاط المصرّ منذ اللحظة الأولى على عدم تأييد فرنجية. وهو نصح مراجعيه ومحاوريه بعدم السير به أكثر من مرة، وبيّن جوهر اعتراضاته وما يمكن أن يعكسه انتخابه على الوضع الداخلي.
لكن لجنبلاط حسابات تتعدى الموقف من فرنجية، أو عدم الحصول على رضى داخلي جامع ومباركة الرياض، أو حتى التوافق مع المظلة السعودية للمعارضة في توجهها الرئاسي. من لا يعرف حقيقة وضع الجبل لا يعرف إلى أي مدى تبقى في خلفية كثير من قرارات جنبلاط ورؤيته لمستقبل العلاقات بين المكونات اللبنانية، ولا يدرك أن الجبل يشكل خصوصية له، بخلاف ما تشكل أي منطقة أخرى لأي زعيم سياسي. وهي تبقى هاجسه الأول والأخير، في حواره مع حزب الله ومع القيادة السنية ومع القوى المسيحية، التي انضمّت إلى مصالحة الجبل أو بقيت خارجة عنها في حينه.
والكلام عن خصوصية الجبل لا يتعلق بظرف أو مناسبة يستعيدها جنبلاط في الأوقات الحرجة. بل هو نابع من معرفة بالأرض، خصوصاً في ضوء التجاذبات السياسية وانعكاس الكلام السياسي الحاد وقائع غير مستحبة على الأرض، فيما تكثر المخاوف من نزعات غير وحدوية، لا سيما في الوسط المسيحي. لذا يعني جنبلاط في شكل أساسي تحييد الجبل في مقاربة خياراته الرئاسية، وعدم الذهاب إلى استنفار عصبيات في غير وقتها وزمانها. وتالياً لا يعنيه أن يختار رئيساً للجمهورية لا يمثل له في الجبل أي حضور سياسي أو شعبي، ولا يعطي إلى واقع الجبل أي إضافة سياسية أو اجتماعية، بحكم الأمر الواقع والحضور السياسي لفرنجية المحصور في منطقته، إذا كان انتخابه سيكون على حساب توافق المسيحيين بأكثريتهم أو يشكل استفزازاً لهم. وهذا لا علاقة له باختياره شخصية رئاسية من طرف سياسي موال أم معارض، بقدر ما هو استبعاد لاستنفار عصبيات القوى المسيحية الموجودة في الجبل على تنوعها، في تأييده لشخصية لا توافق عليها. فما يعني جنبلاط بالدرجة الأولى ألا يخلق أي توترات في زمن صعب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً يمكن استغلاله، وأي ارتداد لخياراته الرئاسية، قد يفهم منه رفعاً لدرجة الحساسيات هو في غنى عنه. ولأنه يعرف كذلك أن هناك أطرافاً كالتيار الوطني الحر قادرة على أن تخلق له متاعب سبق أن حصلت، في حين أنه سيضيف هموماً جديدة على علاقته بالقوات والكتائب. لذا يحاول تمرير الوقت الضائع بأقل الخسائر الممكنة من خلال حفظ التوازن مع المعارضين بتأييد معوض، من دون أن يقفل باب الحوار الرئاسي مع بري وحزب الله وغيرهما. وهو يعرف تماماً كيف يستمر في حفظ التوازنات معهما، وهما يدركان جدياً مخاوفه ومحاذيره. وحين تنضج التسوية سيكون حاضراً، بعد أن يضمن إلا تدخل إلى الجبل أي ذبذبات.