من أجل نموذج اقتصادي يعزّز القطاعات الإنتاجية دون الإبتعاد عن القطاعات الخدماتية
صدر التقرير الاقتصادي الفصلي الجديد لـ"بنك عوده" والذي ورد فيه أنّه بينما بدأ العدّ العكسي للانتخابات الرئاسية دون ظهور بوادر توافقية في الأفق، شهد لبنان أحداثاً هامة ولاسيما على صعيد التوصل إلى اتفاق حول الحدود البحرية الجنوبية وإقرار موازنة العام 2022 وإقرار تعديلات قانون السرية المصرفية.
ففي الواقع، تمّ إنجاز الاتفاق حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، والذي تمحور حول الخط 23 بحيث نال لبنان حقّ السيادة على حقل قانا بينما أسند لإسرائيل حقل كاريش. إن هذا الاتفاق من شأنه أن يحسّن الآفاق الاقتصادية الطويلة الأمد للبنان وأن يعزّز وضعيته الخارجية، ما ينعكس بشكل إيجابي على البلاد، غير أنّ مخاطر التطبيق تبقى موجودة. وترى مؤسسة التصنيف العالمية "فيتش" بأنّ استكشاف الغاز سيدرّ مكاسب اقتصادية هامة على لبنان، أولاً من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية وتالياً من خلال تعزيز إيرادات الدولة في حال تبيّن أنّ الموارد الهيدروكربونية قابلة للتسويق تجارياً. كذلك، رأت مؤسسة التصنيف العالمية "موديز" بأن الاتفاق سيعود بالإيجابية على لبنان كونه يوفّر الظروف الجيوسياسية الأمنية الضرورية لشركات الطاقة العالمية للبدء بعمليات الاستكشاف كما يؤمن نهوض القطاع الهيدروكربوني في البلاد. كما أن انتعاش القطاع الهيدروكربوني في لبنان سيخفض من عجز الطاقة ويساعد على الولوج إلى نهوض اقتصادي عام.
إلا أنّ لبنان لن يتمكّن من تحقيق المكاسب الاقتصادية من اتفاقية الغاز الجديدة قبل ثلاث إلى أربع سنوات، نظراً لتسلسل قيمة النفط والغاز والذي يظهر عدداً من المراحل المتتابعة، بدءاً بالاستكشاف والتوصيات، إلى التطوير، والإنتاج، والنقل، وخطوط الأنابيب، وصولاً إلى التخزين والتوزيع.
توازياً، تبقى التحديات مرتفعة. فتشرذم المجلس النيابي ووصول العهد الرئاسي إلى خواتيمه دون رئيس منتخب يجعل التأليف الحكومي والانتخابات الرئاسية وإطلاق الإصلاحات أموراً أكثر تعقيداً. وهذا ما يعرقل إمكانية الحصول على موافقة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي على اتفاق نهائي مع الصندوق، والذي يعدّ السبيل الوحيد لإخراج لبنان من خضمّ أزمته وتحقيق الانتعاش الاقتصادي المرجو.
هذا ويعكس أداء مؤشرات القطاع الحقيقي خلال هذا العام التفاوت في النشاط الاقتصادي عموماً. من ضمن المؤشرات التي سجلت نمواً سلبياً في الأشهر التسعة الأولى من العام، نذكر قيمة الشيكات المتقاصة والتي سجلت تقلصاً نسبته 12.6% وقيمة المبيعات العقارية (-13.0%). أما من ضمن المؤشرات التي سجلت نمواً إيجابياً فنذكر مساحة رخص البناء الممنوحة (+444.6%)، وعدد المسافرين عبر مطار بيروت (+56.9%)، وعدد مبيعات السيارات الجديدة (+37.5%) وتسليمات الإسمنت (+56.0%)، وحجم البضائع في المرفأ (+9.4%).
على صعيد القطاع الخارجي، سجّلت الأشهر السبعة الأولى من العام 2022 ارتفاعاً في عجز الميزان التجاري بنسبة 40.7% في ظل نمو الواردات بنسبة 34.1%، بينما زادت الصادرات بنسبة 12.7% بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام 2021. في الواقع، ارتفعت الواردات من 7.8 مليار دولار إلى 10.5 مليار دولار خلال الفترة المغطاة، في حين زادت الصادرات من 1.9 مليار دولار إلى 2.1 مليار دولار، ما انسحب اتساعاً في عجز الميزان التجاري من 6.0 مليار دولار إلى 8.4 مليار دولار. هذا وقد سجّل ميزان المدفوعات عجزاً مقداره 3.1 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2022 بالمقارنة مع عجز بقيمة 1.6 مليار دولار في الفترة نفسها من العام 2021. ويعزى العجز في ميزان المدفوعات هذا العام إلى تقلص الموجودات الخارجية الصافية لدى مصرف لبنان بمقدار 3.3 مليار دولار، بينما زادت الموجودات الخارجية الصافية لدى المصارف بقيمة 0.2 مليار دولار.
وتظهر الإحصاءات المصرفية للأشهر التسعة الأولى من العام 2022 امتداداً للنمط السائد منذ بداية العام، في ظل تقلص أقل في الودائع المصرفية بالمقارنة مع الفترة المماثلة من العام 2021، وفي ظل الخفض المستمر للرافعة الاقتراضية، والتقلص المتواصل لمحفظة سندات اليوروبوندز، والتراجع الإضافي في الأموال الخاصة للمصارف نتيجة الخسائر التي تتكبدها. إذ انخفضت الأموال الخاصة للمصارف من 17.8 مليار دولار في نهاية كانون الأول 2021 إلى 16.7 مليار دولار في نهاية أيلول 2022، علماً أنها كانت قد بلغت مستوى قياسياً مقداره 20.6 مليار دولار عشية الأزمة في تشرين الأول 2019. ويعزى الانخفاض في الأموال الخاصة إلى الخسائر الصافية التي تكبدتها المصارف خلال هذه الفترة والتي بدورها مردّها إلى تكاليف القطع الباهظة، وارتفاع الأعباء التشغيلية العائدة الى التضخّم الملحوظ، إضافة إلى متطلّبات رصد المؤونات التي تواجهها المصارف اللبنانية لجبه المخاطر السيادية ومخاطر القطاع الخاص بشكل عام.
أما في يتعلّق بأداء أسواق الرساميل اللبنانية، فقد واصلت سوق الأسهم نموها البارز الذي سجّلته في العام السابق. إذ زاد مؤشر الأسعار بنسبة 24.7% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2022، بعد قفزة المؤشر بنسبة 48.1% في العام 2021، بدافع رئيسي من أسهم "سوليدير". ويترافق ذلك مع نمو سنوي في قيمة التداول الاسمية بنسبة 5.5%، من 295 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2021 إلى 312 مليون دولار في الأشهر التسعة الأولى من العام 2022. عليه، بلغ معدل دوران الأسهم، المحتسب على أساس قيمة التداول السنوي إلى الرسملة السوقية، نسبة قدرها 3.1% في الأشهر التسعة الأولى من العام 2022، مقابل معدل دوران نسبته 3.8% في الأشهر التسعة الأولى من العام 2021.
الخاتمة: نموذج اقتصادي بديل للبنان؟
تشهد البلاد العديد من النقاشات حول الحاجة إلى التحوّل نحو نموذج اقتصادي جديد بعد فشل النموذج الذي اتّسم فيه لبنان لعقود من الزمن. فهل ينبغي على لبنان التخلي عن المحرّكات التي تقبع خلف النموذج السابق؟ هل ينبغي إغفال قطاع الخدمات والذي شكّل لعقود طويلة المحرّك الرئيسي للنمو؟ وما هو البديل لبلد لا تتوفر فيه المواد الأولية ولا العمالة المتدنية الكلفة؟
مما لا شك فيه أنّ النموذج السابق والذي يعتمد على تمويل العجوزات الكبيرة في الميزان التجاري من خلال الأموال الوافدة من الخارج لم يعد نموذجاً مستداماً نظراً للتقلّص الملحوظ في الأموال المتدفقة من الخارج. لذا، لا بد للبنان من خفض استيراده، وتعزيز صادراته وإنتاجه المحلي وتعزيز تدفقاته المالية الوافدة بشكل عام.
صحيح أنّ الواردات تقلصت بنسبة 30% خلال العامين الذين أعقبا اندلاع الأزمة الاقتصادية-المالية في لبنان، إلا أنّها بلغت زهاء 14 مليار في العام 2021، في حين انّ الصادرات لم تتجاوز الـ4 مليار دولار، أي أنّ نسبة الصادرات إلى الواردات لم يتعدّ الـ29%. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه خلال الأشهر السبعة الأولى من العام 2022، زادت الواردات بنسبة 34% مقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق. كما يجدر الذكر أنّ نسبة الواردات إلى الناتج المحلي الإجمالي مرتفعة جداً عند 65%، وهي تعتبر إحدى أعلى النسب في العالم، ذاك أنّ هذه النسبة تبلغ 37% في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، و24% في الأسواق الناشئة، و28% في العالم بشكل عام.
إنّ الاختلالات الحقيقية الراهنة نتجت عن التمسّك في الحفاظ على استقرار سعر الصرف لفترة طويلة ما أدى إلى أحجام كبيرة من الواردات من السلع والخدمات داخل اقتصاد يعتمد بشكل مفرط على الخارج ويفتقد إلى الانتاج المحلي وسط إنفاق مفرط. فمنذ العام 2014، تمّ إنفاق نحو 178 مليار دولار على الواردات والانفاق السياحي في الخارج (توزعت بين 142 مليار دولار و36 مليار دولار على التوالي)، في حين توافدت تدفقات مالية بقينة 120 مليار دولار (تحاويل مالية صافية وعوائد الصادرات واستثمارات أجنبية مباشرة وسياحة)، الأمر الذي نتج عنه فجوة بقيمة 58 مليار دولار، والتي تم تمويلها بشكل غير مباشر عبر الموجودات الخارجية الصافية للنظام المالي (مصرف لبنان ومصارف).
مما لا شكً فيه أنّه هناك حتماً مسؤولية مشتركة لمختلف العملاء الاقتصاديين تجاه اندلاع الأزمة، إلا أنّه لا يمكن إغفال أن الاختلالات الحقيقية نتجت عن الإنفاق المفرط داخل اقتصاد عاش لعقود فوق إمكاناته في ظل سياسات محلية غير تقليدية وسوء إدارة بالغ للقطاع العام.
إنّ معالجة مسألة القطاع الخارجي والذي يشهد اختلالات مستمرة يعدّ أمراً أساسياً. إذ يمكن التوصل إلى تحقيق توازن في ميزان المدفوعات من خلال تقليص الواردات بشكل أكبر، وزيادة الصادرات وتعزيز التدفقات المالية. من هنا تبرز أهمية تعزيز قدرة لبنان على جذب التدفقات المالية الوافدة من خلال استعادة عامل الثقة تدريجياً، كما تعزيز الإنتاج المحلي والصادرات من خلال دعم القطاعات ذات القيمة المضافة وفرض قيود وضرائب على الاستيراد الذي يؤدي إلى تآكل الموجودات الخارجية لدى النظام المالي اللبناني. ويظهر على نقس القدر من الأهمية ترويج الإنتاج المحلي على المستوى المحلي وفي أسواق التصدير.
إلى ذلك، ينبغي على لبنان عدم إغفال قطاعات التجارة والخدمات كونها تمثّل ميزته الأساسية وسمته التنافسية. ومن ضمن هذه القطاعات تظهر الخدمات الصحية والخدمات التعليمية والخدمات الهندسية والخدمات السياحية والخدمات المالية. إن هذه القطاعات كانت وستبقى المحرّك الرئيسي للاقتصاد اللبناني في ظل تخرّج آلاف الطلاب اللبنانيين سنوياً والذين يتوجهون نحو قطاعات التجارة والخدمات خصوصاً. عليه، فإنّ أي نموذج جديد ينبغي أن يعزّز قطاع التجارة والخدمات باعتباره المحرّك الأساسي للنمو، ناهيك عن تحفيز قطاعي الزارعة والصناعة بهدف التوصل إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي لتلبية الحاجات الاستهلاكية المحلية بدلاً من الاعتماد شبه الكلي على مصادر خارجية وسلع أجنبية بشكل عام.
لقراءة التقرير الكامل اضغط على الرابط التالي: tinyurl.com/ytre539v