بقلم ألبير نجيم - ع.م في الأمن العام اللبناني، حقوقي، ومحلل سياسي - أمني
في مقاربة لتطورات مسرح العمليات الاوكراني خلال الاشهر الخمسة الاخيرة، اي منذ بداية حزيران حتي نهاية تشرين الاول الماضي، وحيث انتقل الاضطراب من هذا المسرح الى مناطق العالم كافة، وتم استحضار مناخ الحرب العالمية والحرب النووية وقياس قدرات الدول الكبرى والتحقق تحديدا من القدرات العسكرية الروسية والدول الفاعلة في محيطها، يمكن بتحفظ استنتاج المعادلة التالية: اذا كانت سوريا مسرحا للعمليات خلال العقد الماضي، وعبارة عن حقل تمرين اولي بالمفهوم العسكري، فان اوكرانيا اليوم هي حقل "بروفا" شاملة.
المقصود بذلك ان الحرب على المسرح الاوكراني هي اليوم النموذج البديل للحرب والمواجهة الشاملة بين واشنطن وبكين اولا، ومع موسكو ثانيا، كما هي حرب تنتمي للاستراتيجيات العليا العميقة وليس للاستراتيجيات المتوسطة المدى، او بالاحرى الاستراتيجيات المباشرة، مثلما هي حال الازمة السورية حتى اليوم.
ومن هنا فان العمليات الاستراتيجية المتقدمة والعليا التي تنفذ اليوم في الصراع العالمي بين كل من واشنطن وبكين وموسكو، هي عمليات ذات طابع عميق وكوني وواسع التأثير، وبالتالي لا يمكن ايقافها باتفاق بسيط ما لم تصل الى خواتيمها التي ترضي واشنطن وتقنعها استراتيجيا، وفي الوقت عينه تقبلها بكين صراحة وبالتالي تقر بها موسكو.
اما ما بين الوصول الى القناعة والرضى الاميركي بالواقع، والقبول الصيني والاقرار الروسي به، فهناك زمن مفتوح للحرب، وعلى ايقاع هذه الحرب تجري عمليات هدم واعادة بناء المنظومات الامنية والعسكرية والاقتصادية على المسرح الدولي وفي المناطق ذات الثقل النوعي مثل اقليم الشرق الاوسط، وجنوب شرق آسيا، بعد القارة الاوروبية.
في الشرق الاوسط ما زال العنوان العريض للسياسة الاميركية هو اعادة تفعيل خطة العمل المشترك الشامل بنسختها الجديدة التي اقرتها ادارة بايدن منذ دخوله البيت الابيض، تلك الاولوية الهادفة الى "احتواء" النظام الايراني والتعاون معه على قاعدة مدى التزامه بالاتفاق النووي، الامر الذي لم يتحقق حتى الآن بفعل التشدد الايراني الذي صاحب المفاوضات في فيينا، مما انتج بالمقابل تشددا اميركيا، واستدعى من قبل اميركا تفعيل الدور الاسرائيلي الى حد بعيد وصولا الى تنفيذ مناورات جوية تحاكي ضرب وقصف المنشآت النووية الايرانية تزامنا مع حيثيتين لافتتين:
الاولى: تزويد اسرائيل بطائرات يمكنها اعادة تزويد سلاح الجو اثناء التحليق.
الثانية: رفع سقف القصف المباشر للوجود الايراني في سوريا، فضلا عن جملة سياسات اخرى كالضغوط الاقتصادية، تفجير الحالة الشعبية في ايران والعراق، وفرض الهدنة في اليمن.
وقد دفع هذا الوضع ادارة بايدن الى وقف مسار العودة للاتفاق النووي، خاصة بالتزامن مع الانتخابات النصفية، والتركيز على مسارات المفاوضات السرية البديلة عبر كل من مسقط والدوحة وجنيف، وربما ايضا عبر مسارات اخرى للتفاوض المباشر غير مكشوفة.
وسط ذلك وعلى ايقاع ما يحصل في الداخل الايراني برز مسار المفاوضات حول الترسيم بين لبنان واسرائيل باشراف اميركي، وهو المسار الاكثر فاعلية وتقدما عن غيره، اضافة الى ملف الطاقة ودور القيادة السعودية في تحقيق اختراقات جديدة في العلاقات مع واشنطن، الامر الذي عبرت عنه قمة جدة حيث اضطر الجانب الاميركي بصفته راعي التوازنات الاقليمية في المنطقة الى اجراء تعديلات يتخلى بموجبها عن السياسات الايديولوجية - الديمقراطية والعودة الى سياسة البراغماتية حيال المملكة العربية السعودية وولي عهدها "المتمرد".
وبالعودة الى ملف المفاوضات السرية مع ايران فان من نتائجها المعلنة، حسبما يظهر، النجاح في ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، فيما تتكثف التسريبات الاعلامية والشائعات حول ان الترسيم هو جزء من اتفاقية سلام بين تل ابيب وطهران برعاية اميركية ووساطة قطرية، الفرضية التي تلقى اكثر من نفي وتأكيد على عدم واقعيتها.
بعيدا عن هذه التكهنات وبالحد الادنى من الاستنتاج ومع التحفظ ايضا يمكن الاشارة الى ما يلي:
وجود اتفاق وشيك على برمجة قواعد اشتباك جديدة وملزمة للطرفين على المستوى العام والشامل، ويقضي تفصيلا على المستوى الميداني اللبناني برعاية الهدوء وضبط مستوى التشنج، مع تكليف فرنسا برعاية وتنسيق العلاقات العسكرية – الامنية بين المقاومة والجيش اللبناني بما يضمن الاستمرار في تنفيذ البرامج العسكرية للجيش من دون المساس بمصالح المقاومة الامنية والعسكرية.
اما على الجبهة السورية فيقضي الاتفاق نفسه ببرمجة الوجود العسكري الايراني تأمينا لعدم التعارض مع المصالح الاميركية – الاسرائيلية، وذلك عبر الاستعانة بالوسيط التركي وبعيدا عن الدور الروسي.
وفي العراق فقد اسفرت "الصفقة" عن تفاهمات من شأنها اعادة السلطة الى جماعة ايران مع ضمانات للاكراد بعودة الهدوء الى اقليمهم.
وفي الاردن تبريد نسبي للضغط الايراني عن طريق القبائل تسليحا وتشييعا، ما حمل العاهل الاردني على التراجع عن التصعيد والصراخ ضد ايران ودورها في جنوب سوريا.
وفي الناحية الأبعد وعلى ايقاع الخلاف المستجد مع السعودية فقد ظهر المبعوث الاميركي متشددا الى جانب الحوثيين ومعرقلا لهدنة جديدة، على عكس السعوديين والرئاسة اليمنية الذين ابدوا مرونة لافتة مع مطالب الحوثيين المالية واللوجيستية، وهذا ما اظهر سلوكا "انتقاميا" اميركيا من الرياض.
ولا بد كذلك من الاشارة الى ان اتفاق الترسيم، وكما كشفت عنه مصادر عديدة، تضمن السماح لايران بتصدير 800 الف برميل من النفط يوميا، والافراج عن 7 مليار دولار في كوريا الجنوبية لهذا العام، مقابل ضبط ايقاع "حماس" و"الجهاد" في غزة على ما يبدو...
ويبقى اخيرا ان اتفاق الترسيم ووفقا للقانون الدولي يعطي اسرائيل كامل حقل كاريش من دون اي حصة للبنان، باعتبار ان قواعد القانون المشار اليه تعطي الدول الحق بـ 17 بالمئة من الحقول الحدودية الملاصقة حصرا، وهذا ما استفادت منه اسرائيل قانونا في حقل قانا بصفته حقلا حدوديا، اما التأويلات المخالفة لذلك فهي محض اجتهادات.
في غمرة هذه التطورات يطرح اكثر من سؤال حول مدى تأثير نتائج الانتخابات الاسرائيلية واستطرادا الاميركية على ما تحقق، وتتراوح الردود والتحليلات بين السلبي والايجابي، الا ان التمعن في اصول العلاقات والاتفاقيات الدولية وفي معظم جوانبها التاريخية، كما في عمق المصالح الحيوية للجهات المعنية، يحمل على استبعاد اي امكانية لانعكاسات سلبية جذرية على المستوى الاستراتيجي، وان كانت الممارسات التكتية المغايرة تبقى واردة في جميع الاحوال.
على المستوى اللبناني واستنتاجا مما تقدم فان البلد مقبل على مرحلة هدوء واستقرار، خلافا لاي اعتقاد آخر، وعلى اعادة ترتيب للوضع الداخلي من ضمن اعادة هيكلة التوازنات في المنطقة، لكن الأهم في هذا الصدد وبغية عدم اطالة عمر الأزمة السياسية الحاضرة، واتاحة المجال امام امكانيات ووسائل النجاة من الكارثة الاقتصادية والمعيشية، هو التقاط الفرص الدولية والاقليمية بالحد الأدنى من الرشد السياسي، وبعيدا عن منطق الاستسلام الكلي لارادة الخارج، وانتظار الحلول السحرية، كما وبعيدا عن المصالح الصغيرة، وهذا ليس تطلعا طوباويا بل جديا وصادقا، فهل من سبيل الى ذلك؟