إبراهيم الأمين - الأخبار
خيط دقيق يفصل بين الابتهاج بتفاهم تشرين البحري والغضب منه. خيط يتصل أساساً بالحياة السياسية الداخلية. من الواضح أن الرافضين للتفاهم ليسوا فئة واحدة. بينهم أصحاب وجهة نظر قانونية أو تقنية مفادها أن لبنان ما كان يجب أن يقبل بأقل من الخط 29، وبينهم من يعتقد بأنه كان في إمكان المقاومة والحكم، بمزيد من الصبر، الفوز بما هو أكثر من الخط 23. ولكن، إلى جانب هؤلاء، مجموعة لا يعنيها الموضوع أساساً، ولا تعرف عن الحقول والبلوكات والحدود والقوانين الدولية شيئاً. جلّ ما يهمّها أمران فقط: من أنجز التفاهم ومن سيستفيد منه سياسياً، الى جانب السؤال المشروع حول مصير العائدات المفترضة من الإنتاج النفطي والغازي المرتقب بعد سنوات؟
لحظة التوصل الى التفاهم طابقت لحظة لبنانية شديدة التعقيد تتعلق بالاستحقاقات الدستورية الداهمة بعد الانتخابات النيابية: البحث عن رئيس جديد للبلاد، وعن الإجراءات المانعة للفوضى في حال استمرار الخلاف على طبيعة السلطة التي ستدير البلاد في ظل الشغور الرئاسي. لذلك، كان من الطبيعي على الفئة المعترضة على التفاهم كيدياً أن تركز على النتائج المباشرة لهذا الإنجاز على المفاوضات المتعلقة بالحكومة ورئاسة الجمهورية، مع قلق من الدور الخاص الذي قام به رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل والفريق المحيط بالرئيس ميشال عون. ومردّ القلق أن هذه الجهة أدّت دورها بكفاءة عالية، ونجحت في تحقيق ما كان صعباً تحقيقه في ظروف أخرى، وأحسنت الاستفادة الواضحة من قوة المقاومة في وجه العدو. لذلك، فإن الفريق المعترض كيدياً يفترض أن «فريق باسيل» (مدعوماً من حزب الله أو بالتفاهم معه) سيعمل على استثمار التفاهم سريعاً بالتشدد ورفع سقف المطالب الخاصة بتشكيل الحكومة أو التوافق على رئيس جديد.
مشكلة الفريق الكيدي ليست في أصل الإنجاز فقط، بل في الشكل أيضاً. فقد أدرك هؤلاء، ولمسوا باليد، أن الحصار الغربي والعربي على تحالف عون - حزب الله انكسر بقوة الحاجة الى الإنجاز. فاضطر الأميركيون الذين يضعون جبران باسيل على قوائم المعاقبين إلى التحاور معه مباشرة، وليس فقط من خلال المسؤول عن الملف نائب رئيس المجلس الياس بوصعب. وكذلك فعل الفرنسيون وممثلو الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، ممثلة بقطر التي لم يسبق لها أن قطعت علاقاتها مع أحد ربطاً بالانتهازية الهائلة التي تتسم بها سياستها، والتي كُلفت من الولايات المتحدة بمشاركة الفرنسيين في تولّي جانب من الملف اللبناني، في ظل الحرد السعودي، وخشية مصر والإمارات والكويت من أي خطوة تغضب محمد بن سلمان.
وهذا التواصل لم يكن محصوراً بالجوانب التقنية المتعلقة بملف التفاهم النفطي والغازي، بل أساساً بالخطوات المستقبلية، أي ما يتعلق بالتنقيب والاستخراج والقانون السيادي، وهي أمور تتطلب مناقشات في الجوهر لعمل السلطتين التشريعية والتنفيذية. وإذا كان التيار الوطني الحر يحظى بثقة المقاومة في ما خص ملفات الصراع مع العدو، فإن التيار لا يعاني أزمة كبيرة في تصوره للقوانين التي يجب أن تشرّع بما خصّ المرحلة المقبلة.
وفقاً لهذه القاعدة، سيجد اللبنانيون أنفسهم في القادم من الأيام أمام صنفين من النقاش حول مستقبل الغاز والنفط. وستحتل الشاشات والمنابر حفنة من الخبراء والمتخصصين الذين لا نعرف كيف نميّزهم، وسيخرج من يريد أن يفرض علينا أبناء الثقافة الغربية الاقتصادية أو العلمية بوصفهم القادرين فقط على إبداء الرأي، وسيطلّ حشد من ممثلي الجمعيات غير الحكومية التي قامت قبل عشر سنوات لهذا الغرض، وكذلك فريق الشركات المالية والصناعية التي تريد أن تستثمر في هذا الإنجاز. وسيكون على اللبنانيين البحث بجدّ لمعرفة من هي القوى المحلية المستفيدة من هذا العالم، ومن هو جيش السماسرة الجديد الذي سينتشر على طول الساحل اللبناني باسم الطوائف والمذاهب والفرق.
أيّ حكومة؟
واقع ما يحصل يحيلنا مباشرة الى السؤال عن مصير الحكومة. صحيح أن غالبية ساحقة من المعنيين باتت تقرّ بأن عدم تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات في ما تبقّى من ولاية الرئيس عون يهدد بمشكلة كبيرة لأن رئيس الجمهورية سيوقّع مرسوم إقالة الحكومة الحالية، وسيبادر فريق وزاري وازن إلى الانسحاب من الحكومة وتركها من دون غطاء سياسي. لكن بين الأقطاب من يعتقد أنها ليست مشكلة كبيرة، وأنه يمكن تجاوزها من خلال تفاهمات بين الأقطاب البارزين في الدولة. وهؤلاء، يبدو أنهم لم يقرأوا جيداً المفاعيل الأولية لتفاهم البحر على التوازن السياسي الخاص بتشكيل الحكومة قبل آخر الشهر.
لنرسم اللوحة ببساطة. بعيداً عن نقاش لا بدّ منه حول تجربة التيار الوطني الحر خلال السنوات التي تولى فيها دوراً تنفيذياً في الحكومة أو البلديات أو رئاسة الجمهورية، فإن واقعنا اليوم يؤكد أن من يريد تشكيل حكومة قبل نهاية العهد، مضطر إلى التعامل بواقعية شديدة مع من بيده التوقيع والنفوذ والتمثيل والفعالية. وإذا كان الفريق الخصم لباسيل (يضمّ الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي، ووليد جنبلاط وجمعية المصارف ومصرف لبنان وجماعة أميركا وفرنسا والسعودية) لا يريد ضم باسيل الى الحكومة الجديدة، فعليه أن يبحث عن صفقة مع القوات اللبنانية ومع بقية الممثلين المنتخبين للمسيحيين في لبنان. ويحتاج هؤلاء الى غطاء ولو مؤقت من بكركي في لحظة الانقسام المسيحي الكبرى.
وإذا كان ذلك غير متاح بفعل وجود الرئيس عون من جهة، وتحفّظ - إن لم يكن معارضة - حزب الله من جهة ثانية، فإن خصوم باسيل معنيون بالبحث معه عن تسوية انطلاقاً من حالة اللايقين إزاء انتخاب رئيس جديد خلال أسبوعين. والاتفاق مع باسيل يجب أن ينطلق من الحسابات البسيطة التي تقول إن أي حكومة تدير البلاد في ظل الشغور الرئاسي، يفترض أن تكون قوية وتعكس التوازن السياسي في البلاد عند اتخاذ أي قرار. وهذا يقود الى مقاربة مختلفة. وفي هذه الحالة، يبدو باسيل واضحاً في أنه يريد حكومة جديدة يتمثل فيها تياره وفريقه السياسي بوزراء لهم وزنهم السياسي وتمثيلهم المباشر، الى جانب ما يفترض أن يقدمه من اختصاصيين في الملفات المعقدة.
بهذا المعنى، لم يعد هناك من معنى للحديث عن تعويم الحكومة الحالية في حالة الشغور الرئاسي، وبهذا المعنى يمكن فهم الرفض المسبق من عون وباسيل لكل المقترحات التي تريد تكريس الأمر الواقع، وكأن لا مشكلة في البلاد في حالة الشغور الرئاسي. أما اتكال الرئيسين بري وميقاتي على حزب الله لإقناع باسيل بالتراجع عن مطالبه فغير واقعي، لأن باسيل نفسه يريد من حزب الله أن يمارس الضغط على بري وميقاتي لتعديل شكل الحكومة. وفي هذه الحالة، سيكون حزب الله أمام معضلة كبيرة، لا يمكنه معها فرض إرادته على أي من الفريقين بخلاف ما يعتقد كثيرون.
أما الجانب الآخر من النقاش فهو المتعلق ببرنامج عمل الحكومة المقبلة، وهو برنامج في حال ثبوت عناوينه الرئيسية سيكون أساس برنامج أي حكومة تأتي مع رئيس جديد. وما يطلبه الرئيس عون أو باسيل من برنامج عمل يتصل عملياً بالنقاط الرئيسية التي تعيدنا الى المربع الأول الخاص بواقع لبنان ما بعد تفاهم الغاز، لأنه لا يمكن إدارة البلاد مع الفريق المالي والنقدي والاقتصادي نفسه. وعندها يجب فهم أنه لا يمكن بقاء رياض سلامة ومعه فريق كبير من المصرفيين والخبراء الماليين والنقديين ومن الموظفين في مواقعهم بعد كل ما حصل، كما لا يمكن الركون الى التشريعات الهزلية التي تفرض قوانين يمكن للسلطة الإجرائية تجاوزها من خلال تسويات سياسية جانبية. ويجب الفصل فوراً في الملف القضائي مع سلطة فاشلة ومنحازة كالتي يديرها سهيل عبود الآن.
الحكومة كتمرين للرئاسة
بناءً عليه، فإنّ النقاش القائم حول ما يفترض أن تكون عليه الحكومة في حالة الشغور الرئاسي، سيكون له ما يطابقه في ما خصّ الاستحقاق الرئاسي نفسه. وفي هذه الحالة، هناك خيارات ضيقة:
إما رئيس تفرضه أميركا والسعودية، وهذا دونه انفجار كبير يطيح كل ما بقي في هذه البلاد.
وإما رئيس أقرب الى 8 آذار، وهذا دونه تغييرات جوهرية في تحالفات حلفاء حزب الله من المسيحيين وإعادة تموضع لوليد جنبلاط.
وإما رئيس تسوية من النوع الذي يفترض به التزام الحياد مع الجميع. وفي حالة لبنان، فإن الحياد يعني تسويات يومية مع بقية أركان الدولة، وهذا يعيدنا الى نقل المعارك الى داخل الحكومة وإلى الشارع أيضاً. وفي ظل الاحتقان السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، فإن خطر اندلاع الفوضى المتنقلة سيكون حاضراً بقوة، ولن يكون بمقدور أحد، بمن فيهم الجيش اللبناني، منع تطوره وتمدّده وحتى إصابة المؤسسات الأمنية والعسكرية نفسها بسوء قد يقود في لحظة كبيرة الى انقسامها وتعطّلها كأداة وطنية جامعة، وهو مركز الخطر الكبير.
في حالة لبنان الفاقد للصديق أو الوصيّ الخارجي القادر على الضرب على الطاولة، ليس أمامنا سوى الصبر والصلاة علّ ما بقي من هيكل الدولة لا يسقط دفعة واحدة فوق رؤوسنا جميعاً!