النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
في بداية حياتي المهنية، كنت أتردّد على قلم محكمة الجنايات في طرابلس، مستطلعاً عن متهمين لم يستطيعوا توكيل محامين، عارضاً نفسي متطوعاً مجاناً؛ بدافع التدرب والشغف بالمحاكمات، وشعوراً مني بواجب تقديم المساعدة لمن يحتاج إليها؛ ومن ذكريات تلك المرحلة أنّ رئيس المحكمة المرحوم صباح الحجار، كلّفني بالدفاع عن شخص أحفظ اسمه وأعفّ عن ذكره، بتهمة ترويج الحشيش في أحد مقاهي المدينة، لكنني وقبل أن أعكف على قراءة الملف استوقفتني سيدة يدلّ زيّها على رقّة الحال، تحمل بيدها عدداً من الهويات؛ سألت هل أنت المحامي درباس، أجبتها بالإيجاب، فقالت أنا زوجة المتهم فلان، وهذه هويات أولادي السبعة، وأنا لا أملك مالاً لأدفع لك الأتعاب، ولكنني مستعدة أن أعمل خادمة في منزلكم، قلت لها إنني متطوع والقانون لا يسمح لي بتقاضي الأتعاب، ولكن تلك السيدة أملت عليّ من غير أن تدري طريقة دفاعي عن زوجها من غير حاجة لاستبطان الأدلة والتوكؤ على القانون، إذ اكتفيت بمرافعتي أن سردت للمحكمة حوارها معي، وقد كانت حاضرة مع أولادها، وتساءلت إذا كان وجدان المحكمة (l'intime conviction) كما يقال بالفرنسية، يسمح بإدانة رجل يعجز عن توكيل محامٍ بعد أن أعجزه السجن عن إطعام أولاده، ولفتُّ النظر إلى أنّ تجّار المخدّرات الحقيقيين يدفعون أبهظ الأتعاب، ويعيشون حيوات رغدةً أين منها حياة هذه السيدة المقهورة مع أطفالها الجوعى؟
لا شكّ أنّ قلبَ المحكمة رقّ لما قلت فبرّأت المتهم، ولكنني فؤجئت بأنه متّهم بالترويج أيضاً، في قضية أخرى، فلما دقّقت بالوقائع تبيّن لي من التاريخ الذي زعم التحقيق ضبطه فيه، أنه كان نزيل سجنه، فرافعت مجدداً وطعنت بتزوير التحقيق، ولكن الرئيس الحجار بابتسامته اللطيفة، سألني "أليست البراءة أفضل من ادعاء التزوير؟" ففهمت مراده وطلبت البراءة التي صدر الحكم بها ثانية.
منذ ذلك الوقت لم يترك الرجل وعائلته وسيلة من وسائل المودة والعرفان بالجميل إلا وأظهروها، فمن باقات الورد، إلى باقات الدفلى، إلى مواكبتي في معركتي الانتخابية في العام 1972.
قامت الحرب بعد ذلك، وانقطعت الصلة بهم، إلى أن فؤجئت به بعد سنين طويلة، ينتظرني في مكتبي، فسألته عن مراده، فشرح لي أنه في نزاع مدني مع أحد الأشخاص طالباً مني المشورة، أجبته لما أراد وشكرني وهمّ بمغادرة الغرفة، فاستوقفته لأنه نسي كيساً ورقياً على طاولتي، فقال هذا الكيس لك، ظننت أنه يحتوي على شيء من هداياه المعتادة، فتحته ووجدت أنه مليء بنقود كثيرة فزجرته بالقول: "أتريدني أن آخذ مال أولادك، فأجاب بأنه ميسور الحال جداً، وأن أعماله في ازدهار، فسألته عن نوع عمله هذا، ردّ بصراحة قاتلة: "هي أعمالي ذاتها، فأنا أبيع "سجائر الحشيش لزبائن المقهى الذي أعمل فيه" .
أصابتني الدهشة وقلت: اِسمع يا فلان والله، لو كنت أعلم فعلاً أنك من مروجي المخدّرات، لما تمكّنت من الحصول لك على البراءة، لأنّ المحكمة ولا شك قد تأثرت بحماستي الصادقة في الدفاع عنك وإيماني بمظلومتيك! لقد خدعت بك وذهبت بالشوط إلى آخره.
الآن أعترف لذلك الرجل بجميله عليّ، لأنه علمني اللجوء إلى التدقيق قبل التصديق، فإذا تأكدت، تولّتني حرارة الإيمان بقضيتي وبصحتها، وصارت مرافعتي نسيجاً شديد التداخل بين القانون والعاطفة المتحمسة، بل هكذا صرت أنظر إلى دوري في المحاماة وكذلك دور أهل السياسة الذين تفتضح قضايا أكثرهم تماماً بتهافت خطبهم وخلوّها من روح الرسالة وحرارة محبة الناس، فما أسهل أن ترصَّ حرفاً على حرف، وترصف كلمة بجانب كلمة، وتنسج ديباجة عصماء خالية من عصمة الإيمان بما تقول.
أصدقكم القول أيها الأصدقاء، إنني في موسم الرئاسيات تلحّ عليّ تجربتي التي ذكرت، ويجتاحني قلق جارف من مرافعة سياسة مخدوعة او خداعة، تروّج لمرشّح تكون مهنته المستترة الترويج للمخدرات السياسية.