النقيب السابق للمحامين في طرابلس، الوزير السابق رشيد درباس
صرخة جريحة يصدرها الوجع اللبناني كلّما ابتلعت الموجات وجبات بشرية جديدة، أصنافها من الشباب والأطفال والرَّضَّع والأجِنَّة.
"بس يا بحر".. آن لك أن ترحم راكبي الألواح الخشبية الواهية، والأوهام الكاذبة، وتصدّهم قبل الوصول إلى شاطئك بزمجرة زاجرة، بدلاً من استدراجهم إلى هدوئك الخادع وأفقك الواسع.. تمهيداً للفتك بهم..
"بس يا بحر".. نداء قديم، خطّه الكاتب الكويتي عبد الرحمن الصالح، وأبدعه شريطاً سينمائياً المخرج الكويتي خالد الصديق، فرُشّح من ضمن أفضل الأفلام الأجنبية لدورة الاوسكار الخامسة والأربعين.
في الفيلم يتعامل الناس والبحّارة مع البحر وكأنه من بني البشر الخيّرين، عندما يقدّم لهم السمك واللؤلؤ والمتعة، ولكنّ البحر يتحول إلى وحش مفترس وصياد لأرواح الشباب ومهلكاً لحيوات الناس في كثير من الأحيان.
كان لصيادي اللؤلؤ أغانيهم وموسيقاهم وطبولهم، وكانوا يحترمون طقوس البحر ونواميسه التي تجعل التعامل معه عسيراً لأنه بأمواجه العاتية وهدوئه الخبيث يصبح عدواً وصديقاً في آن. هكذا حدّثنا الفيلم الجميل الذي يسرد أيضاً أحداث حقبة انتقالية عن الغوص على الأصداف قبيل انفجار رمال الصحراء بالذهب الأسود.
وفي هذا قال رائد الشعر الحديث بدر شاكر السياب في قصيدته الخالدة "أنشودة المطر":
أصيح بالخليجْ..
يا خليجْ...
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى..
كأنه النشيجْ
يا خليجْ
يا واهب المحار والردى..
تداخل الصوت بصداه فاختفى اللؤلؤ وتآكل وبقي المحار الفارغ وبقي الردى.
تشتدّ الحياة بصعابها، فيلجأ ابناؤها إلى أحد الأزرقين، أو كليهما، فإما الطيران وإما الغوص في اللون الكاذب، فالأعماق تُظهر اللّون على غير أصله، ورقرقة الماء تُخفي في مذاقها الطعم الأُجاج، ورقّة النسيم خديعة ما قبل الهياج، وهم في حيرتهم بحثاً عن أجنحة يستفتون النورس فتنهاهم عن مشاركتها لفضائها، وتدلُّهم على سراب عائم، ما أن يركبوه حتى يغوص بهم إلى قاع المغامرة.
ذروة المأساة أنّها تتكرر وتتفاقم، فآحاد الضحايا صاروا عشرات، والعشرات مئات، وتجّار الموت يجنون أرباحاً وصفها قانون العقوبات بالعمد وسبق الترصد. وهي أرباح عقوبتها الإعدام، فيا ليت المشرّع يتدخّل وينصّ على الإعدام بالاغراق إضافة إلى الإعدام شنقاً أو رمياً بالرصاص.
هؤلاء القتلة يتعمّدون غشّ ضحاياهم، فيجرّدونهم من مدخراتهم وهواتفهم، ثم يدفعون بهم إلى الهلاك المحتوم مصحوبين بزورق سريع لا لإنقاذهم، بل لإنزال سائق المركب، الشريك المنفذ للجريمة.
هنا تستفحل المشكلة، وتتعدد المسؤوليات، بدءاً من رب الأسرة الذي أخذته الغفلة فاندفع معها إلى الموت المالح، مروراً بتقصير أهل الرأي والإعلام الوقائي، وغياب نصائح الخبراء للتوعية، وصولاً إلى أجهزة الأمن التي أثبتت عجزها حتى الآن عن ضبط تلك العمليات المكشوفة والمفضوحة، وبالإضافة إلى ما سبق، نجد أن وتيرة التعاطف الإنساني فترت، ومنصّات الإغاثة اختفت، فاكتفينا بذرف دمع مؤقت على من لا نعرف، فيما يلتاع أهالي الغرقى ويصرخون بملء اليأس: "بس يا بحر"..
أيها الأخ الغريق...
هل أغراك أن تكون لقمة للأمواج لولا أن اللقمة عزت في بيتك فتضوّر الأولاد جوعاً...
هل أسلمت نفسك وأهلك إلى ضئيل الأمل لولا فقدانه تماماً في وطنك...
هل كنت لتذهب إلى فردوس مغشوش لو لم تكن جهنم قد حاقت بك من كل جانب؟
أذكِّرُ بأنه بعد الغزو الإسرائيلي للبنان، وارتحال منظمة التحرير الفلسطيني بحراً إلى تونس، هتف محمود درويش:
أينما ولَّيْتَ وَجْهَكَ.. كُلٌّ شيءِ قابلٌ للانفجارْ
الآن بحر كلُّهُ.. ومن لا برَّ له ..لا بَحْرَ لَهْ.
فيا أيها الغرقى الاعزاء، سابقين ولاحقين،
ما لم نمسك ببرّنا.. فلا بحر لنا..
برّنا ذئابه جبّانة فمن يصدّها؟
وزواحفه في أنيابها العطب، فلا نستسلمنّ للين ملامسها،
هل أنتم تغادرون البر، أم أنتم ضحية غدره؟
نحن نبكي عليكم ونقول.. "بس يا بحر"..
وأنتم تبحرون، وتصرخون في وجوهنا:
"بس يا برّ"...
|
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار انضموا إلينا عبر قناتنا على واتساب (channel whatsapp)
اضغط هنا