الجمهورية
طارق ترشيشي
تنوعت التفسيرات والاستنتاجات حول ما شهدته أولى جلسات المجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفاً للرئيس ميشال عون، الذي تدخل ولايته الرئاسية اليوم شهرها الأخير، وذلك لما حفلت به هذه الجلسة من رسائل وما عكسته من توجّهات، بان بعضها وبقي بيان البعض الآخر لقابل الايام والجلسة او الجلسات اللاحقة التي سيعقدها المجلس خلال الشهر الجاري.
يرى الذين تتبعوا بعمق وقائع الجلسة النيابية الاولى لانتخاب رئيس الجمهورية انّها كشفت نوعاً ما توجّهات رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع، في انّه يسعى لفرض رئيس تحدٍ ولا يناور، ولذلك اختار المرشح النائب ميشال معوض. وسأل هؤلاء المتتبعون عمّا يضمره لاختيار التحدّي، وهل يناور بمرشح تحدٍ للوصول إلى مرشح تسوية؟ ام انّه يراهن على مظلّة غربية تجمع التغييريين مع من يسمّيهم «السياديين» مع رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط، للذهاب إلى اكثرية النصف زائداً واحد في المجلس النيابي، ويستفيد من الضغط الخارجي بوجوب انتخاب رئيس الجمهورية الجديد في موعده الدستوري، اي انّ من يعطّل نصاب الانتخابات يخضع للعقوبات، وهذا أقصى طموحه.
وتقول قراءة أخرى لوقائع الجلسة الانتخابية، انّ جعجع يدرك تماماً انّ رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية هو الرئيس المقبل للجمهورية، نظراً لعدم وجود تعدّد في الخيارات لدى فريقه السياسي، لأنّ رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل خاضع للعقوبات الاميركية، ونظراً لأنّ ليس هناك من «فيتو» غربي على فرنجية، كما انّه لم يظهر حتى الآن انّ هناك أي اشارة سلبية سعودية ضدّه، وفي المناسبة لماذا يكون هناك «فيتو» سعودياً عليه، فالتاريخ لا يتجزأ، إذ ما من عائلة في لبنان ارتبطت بعلاقة صداقة متينة مع المملكة العربية السعودية والعائلة المالكة أكثر من آل فرنجية. فالرئيس الراحل سليمان فرنجية كان صديقاً كبيراً للملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، والنائب الشهيد طوني فرنجية والد المرشح فرنجية، كان صديقاً لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز.
ومن هذا المنطلق، يسعى جعجع إلى رفع السقف من اجل تطيير مرشحه والمرشح الآخر، أي فرنجية، في آن معاً، والذهاب إلى مرشح وسطي. وثمة احتمال ثالث لدى جعجع، وهو انّه يفكر بالفراغ وشدّ «العصب السيادي»، وما يستتبع ذلك من تطورات وصدامات سياسية على الساحة الداخلية.
ولكن أمام هذا الواقع، يرى المتابعون، انّ جعجع استطاع ان يفرض أجندته على الأفرقاء الآخرين في هذا السياق، من حزب «الكتائب» إلى غيره من الكتل، وبالتحديد على رئيس «الكتائب» سامي الجميل، لأنّ من المعلوم انّ الجميل ونعمة افرام لديهما خصومة سياسية شديدة وتباين جذري مع النائب ميشال معوض. ويقال انّ افرام لو كان موجوداً في لبنان لما انتخب معوض، فيما صوّتت كتلة «الكتائب» له مرغمة، لأنّها تعتبره خيار «القوات اللبنانية».
اما في المقلب الآخر، فليس هناك من ترشيح لفرنجية من جانب فريق 8 آذار الذي اعلن أنّه سيدعم مرشحاً ولن يكون لديه مرشح. ولكن هنا يبدو انّ فرنجية هو المرشح الطبيعي الذي سيدعمه هذا الفريق لسبب بسيط، وهو «انّ الهجمة على المقاومة ومحاولة عزلها في لبنان تفرضان ان يكون هناك حامٍ دستوري لظهرها. وإثباتاً لذلك، انّ ما حصل في الطيونة هو خير دليل، عندما كان الرئيس ميشال عون يقف على الحياد إزاء المطالبة بتنحية المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، فكان ان وقعت المواجهة يومها بين السلطة و«الثنائي الشيعي»، ولو كانت هناك سلطة تنفيذية تحمي المقاومة من الاستهداف لما وقعت حادثة الطيونة»، على حدّ قول المتابعين.
ولكن يبدو انّ هناك مشكلة ضمن فريق 8 آذار تتجلّى في حالة عدم الاتفاق بين فرنجية وباسيل، وهي التي تعوق التقدّم في اتجاه انتخاب فرنجية لأسباب تتعلق بعدم موافقة باسيل عليه حتى الآن. ويبدو انّ هذا ما يتكل عليه جعجع، وقد قالها في مناسبات عدة. ولكن هنا تبقى العبرة بتغليب المنطق الاستراتيجي على المنطق الشخصي، لأنّه من الاقتناع بمكان انّ «الفريق الآخر» يسعى في المراحل اللاحقة الى استكمال مدّه على الساحة المسيحية وضرب «التيار الوطني الحر» تحديداً. في حين انّ انتخاب فرنجية رئيساً من شأنه تعزيز اوراق المسيحيين المتحالفين مع المقاومة، عبر وقوفه إلى جانب باسيل في مواجهة الآخرين الذين يسعون إلى إحداث شرخ ومتاريس بين الشيعة والمسيحيين، وهذا ما يجب ان يتفاعل معه «التيار الوطني الحر» بموضوعية، لأنّ اي رئيس لا لون له ولا طعم سيكون مهيمناً عليه من الفريق السيادي المسيحي، نظراً لتطابق افكارهما ولضعف موقفه تجاه اي تهويل بالعقوبات.
ولكن وبالعودة إلى الجلسة النيابية الانتخابية الاخيرة، يتبين انّ مجموع اصوات الاوراق البيض البالغ 63 ورقة بالإضافة إلى اوراق «لبنان» يتخطّى الـ 70 نائباً، لأنّ أصحاب اوراق «لبنان» غالبيتهم من سُنّة الشمال وتربطهم صداقة متينة بفرنجية ولا يمكنهم الّا ان يدعموه. وبالتالي يمكن اي توافق بين باسيل وفرنجية على أسس موضوعية من شأنه ان يعزز حظوظ الاخير مقابل تشتت الاصوات الاخرى. إذ لا يمكن للتغييريين ان يتفقوا مع جعجع وحلفائه في ظلّ المعايير المعتمدة لديهما. وذهب البعض إلى القول في هذا السياق، إنّ الموقف الذي اتخذه هؤلاء وغيرهم بعدم التصويت لمعوض ربما يشي بحيادية سعودية وبباب مفتوح للتفاوض.
على انّ المتابعين يرون انّ ميزة فرنجية وقوة ترشيحه تتجلّى في انّه «حامٍ لظهر المقاومة، كونه سليل عائلة معروفة بالعداء لاسرائيل، وكون جدّه الرئيس الراحل سليمان فرنجية هو من رموز العروبة، كيف لا وهو الذي وقف عام 1974 في الجمعية العمومية للامم المتحدة متكلماً باسم الأمة العربية جمعاء مدافعاً عن القضية الفلسطينية». ويضاف، انّ سليمان فرنجية الحفيد قد تزامنت ولادته السياسية مع ولادة «اتفاق الطائف»، وبالتالي يكون هو من حماته ومن الحريصين على استكمال تطبيقه، كونه هو «المؤتمن على الوحدة الوطنية وعلى السلم الاهلي في لبنان»(وهذا ما شدّد عليه البيان المشترك السعودي ـ الفرنسي ـ الاميركي الاخير)، وهذا ما يتجلّى بالقبولين السنّي والشيعي لترشيح فرنجية. علماً انّ ما من عاقل يشك في انّ الرجل يمثل الوجدان المسيحي في لبنان، وبالتالي لا إمكانية لنزع العباءة المسيحية والمارونية عنه.
يبقى انّ الايام المقبلة ستشهد تطورات من شأنها توضيح الصورة اكثر فأكثر في ظلّ الاندفاعة العربية والغربية لإنجاز الاستحقاق الرئاسي في موعده الدستوري.