جورج شاهين - الجمهورية
مع دخول البلاد مدار الإستحقاق الرئاسي، انطلقت المبارزة بين مجموعة من «الجهابذة» في إصدار الفتاوى الدستورية على «قاعدة غب الطلب» بهدف إثبات صحة هذه النظرية او تلك بمعزل عن الجدل الذي يمكن ان تقود اليه بما يزيد من حدة المواجهات بدلاً من تحجيمها. وفي ظل فقدان المرجع الدستوري الحاسم للبت في بعض النماذج المرتكبة، دُعي مرجع دستوري الى جولة بين القصور ليجري بحثاً عن القانون والدستور، فكانت هذه القراءة.
ليست المرة الاولى التي تنطلق فيها المبارزات بين المستشارين القانونيين والدستوريين المعتمدين في مقار السلطات الدستورية في إصدار الفتاوى والاجتهادات القانونية والدستورية التي تبرّر هذه الخطوة او تلك، والتي تدفع الى تحقيق الغاية المحصورة بهذا المرجع او ذاك عند اختلاف الرؤية والهدف والمصلحة بطريقة لا يرقى اليها الشك. وهو ما فتح وما زال يفتح الجدل عميقاً فيما بينها بحثاً عن الأسباب الموجبة التي تبرّر هذه الخطوة او تلك، ايّاً كانت النتائج المترتبة عليها وعلى اي من المستويات، حتى تلك التي يمكن ان تمس ضمان استمرار العمل في المرفق العام وربما تهدد وحدة البلد والكيان والمؤسسات وتدفع الى ما لا يُحمد عقباه.
والأخطر من هذه الظاهرة التي وقعت ويمكن ان تتكرر في اي محطة مشابهة، انّ عددا من التجارب السابقة التي عبرتها البلاد، قد تسببت بولادة أعراف وسوابق يَنأى عنها الدستور بعدما جهد المشترعرفي تجنّبها عند صوغ المواد الدستورية، خصوصا في الحالات التي فرضت فيها المخارج والحلول على قاعدة وجود الاقوى في هذا الموقع او ذاك، كما في الشارع الموازي له، فجمد العمل بما قال به القانون والدستور الذي وضع على الرف، فيما اصطفّ الخبراء الدستوريون الحياديون والمستقلون يتفرّجون ويحصون الانتهاكات التي حصلت، والتي تحول البعض منها مسارا معتمدا في محطات وحالات مشابهة.
وانطلاقاً مما تقدم، توقف مرجع دستوري أمام بعض النماذج من تلك التي عاشتها البلاد في السنوات الاخيرة على مستوى السلطات الدستورية وتلك المرتقبة ان أقدم رئيس الجمهورية او ايّ منهم على إجراء دستوري غير مألوف قبَيل نهاية الولاية الرئاسية الحالية. مفنّداً إيّاها من منظار مستقل وحيادي بمعزل عن المصلحة الشخصية التي يمكن ان تقود مسؤولاً في هذا الاتجاه او ذاك، في محاولة جادة لإنصاف المشترع الذي لم يكن يحتسب ان تصل البلاد الى ما هي فيه اليوم من تجاهل لما قال به الدستور نصاً وروحاً قبل إخضاعه لِما لا يحتمله من تفسيرات خارجة عن المألوف، وقد فرضت لربما بـ»خدعة قانونية او دستورية»، او يمكن ان تمر بقدرة قوة قاهرة في مرحلة من المراحل، ومن خلال تقديم بعض الأعراف والسوابق التي فرضت في حينه على ما يقول به القانون والدستور.
وعند الدخول في النماذج المطروحة على المرجع الدستوري فقد رفض الدخول في ايّ سجال مع اي من «معدّيها» ممّن يسمّيهم «مستشاري البلاط»، لكنه يصر على إبداء الرأي القانوني والدستوري فيها بكل تجرد. وعليه، فقد توقف امام ثلاثة نماذج هي:
- أوّلها، ان أقدمَ رئيس الجمهورية - كما تردد في الساعات الماضية - على إصدار اي من المراسيم الثلاثة التي تصدر عند تشكيل اي حكومة جديدة وخصوصا المرسوم الذي يصدر بتوقيعه وحيداً بقبول استقالة الحكومة يظهر أكثر من عيب دستوري. فالحكومة الحالية تصرّف الاعمال من دون اي اجراء أقدم عليه رئيس الجمهورية، وهي اكتسبت صفتها منذ ان انتهت ولاية المجلس النيابي القديم الذي منحها الثقة في 22 ايار الماضي من دون إذن من احد. وإن كان الهدف المعلن عنه شَلّ الحكومة ومنعها من ممارسة صلاحياتها في حال الشغور الرئاسي، فإن اي قرار او مرسوم يؤدي الى تعطيل المرفق العام لا يصحّ اتخاذه، ومن ضمنها المرافق الدستورية، فكيف ان كان الامر يتعلق بمصير اكبرها وهي الحكومة المناط بها السلطة التنفيذية كاملة. وأبعد من ذلك، فإن اي قرار يصدره رئيس او اي سلطة دستورية او إدارية لا يستقيم ان كان سيؤدي الى تعطيل هذا المرفق، وكيف ان كان قراراً لا ينتج سوى مزيد من تأزّم الوضع في وقت لا يوجد اي مؤسسة دستورية يمكنها ان تعيد احياء او ترميم ما جرى تدميره.
- وثانيها، ما دأب على ممارسته رئيس مجلس النواب نبيه بري في جلسات انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية ما بين 24 أيار 2014 و31 تشرين الاول 2016 بإقفال محضر الجلسات المتتالية لانتخاب الرئيس بحثاً عن نصاب الثلثين في كل جلسة تلي، التي لم تكتمل نتائجها الدستورية. وان تسلّح بري فقد تسلّح يومها باجتهاد دستوري، فهو لم يكن صائباً لا بل يمكن القول انّ ما جرى يومها قد فرض بقوة قاهرة في المؤسسة التشريعية كما في الشارع. وعليه، أصرّ المرجع على تقديم النموذج الإيطالي لمثل هذه التجربة، فالدستور الإيطالي يستنسخ دستورنا في قواعد انتخاب الرئيس واصوله، ولما اضطر رئيسه الى مثل هذه الخطوة عند استقالة رئيس الجمهورية عام 2015 بسبب العجز عن ممارسة مهماته لبلوغه 89 عاما وقبل عامين على نهاية ولايته، دُعِي المجلس النيابي الى جلسة انتخاب خلفه، فانعقدت الجلسة الأولى بنصاب الثلثين ولم تؤدّ غرضها. وعندها، جرت الانتخابات على دورتين لانتخابه بالأكثرية المطلقة، اي بالنصف زائدا واحدا، ولم ينجح فرفع الجلسة من دون إقفال المحضر. وبعدها بأسبوع دُعي المجلس الى جلسة ثانية باعتبارها امتدادا للدورات السابقة، وبقيت المراوحة نفسها لثلاث دورات الثالثة والرابعة والخامسة. ولمّا لقيت النتيجة عينها استكمل دعواته بعد اسبوع فعقدت الدورتان السادسة والسابعة، ولمّا بقي الأمر على هذا النحو استبعد المرشحون للرئاسة وانتخب رئيس المحكمة الدستورية رئيساً للجمهورية.
- وثالث التجارب الدستورية، ما نمي عن وضع دراسة دستورية بتصرف رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي تعطيه الحق بإصدار المراسيم بتوقيع منه ومن الوزير او الوزراء المختصّين بعد ان اعتبرت تجربة الرئيس تمام سلام، الذي كان يرأس حكومة بكامل مواصفاتها الدستورية اثناء الشغور الاخير، بتوقيعه ومعه الوزراء الـ 24 على كل مرسوم يصدر عن الحكومة خطأ دستورياً. فاعتبر المرجع الدستوري أنه وإن صحّت هذه الفتوى فإنها ستشكّل فضيحة دستورية كاملة المواصفات. فالدستور قال بإناطة صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء ولم يقل برئيس الحكومة والوزير المختص عند ممارسة صلاحيات الرئيس الغائب.
وختاماً، فقد توقف المرجع الدستوري عند هذه النماذج الثلاثة، ليس لأنه ليس هنالك من مخالفات أخرى تُرتكب يومياً، ولكن اختيارها واحدة من كل قصر كان لدحض النظرية التي يتمسّك ساكن كل منها بأنه لا يحتكم سوى الى القانون والدستور. فيما القاصي والداني يدرك انّ الخروج عنه بات القاعدة وتطبيقه استثناء. وعليه، انتهت الجولة بين القصور من دون العثور على أي مظهر من مظاهر القانون والدستور.