ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قداس الأحد في كاتدرائية القديس جاورجيوس.
بعد الإنجيل، ألقى عظة قال فيها: "وَصَـفَ المَسيـحُ، قَبْـلَ أَنْ يَصِـلَ إلـى الآلامِ والصَّلْـب، حَيـاةَ التَـلميـذِ مُسْتَخْـدِمًـا صـورَةَ المَحْكـومِ عَلَيْـه، الَّـذي يَحْمِـلُ صَليبَـه. فمَـنْ يُـريـدُ أَنْ يَتْبَـعَ المَسيـحَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِـرَ نَفْسَـهُ، أَيْ أَنْ يَنْبُـذَ جَـذْرَ كُـلِّ الأَهْـواءِ الَّـذي هُـوَ الأَنـانيـة، وهَـذا يَعنـي أَنْ يَنْبُـذَ مَحَبَّـةَ الـذَّاتِ، ثُـمَّ أَنْ يَحْمِـلَ صَليبَـه، بِـأَنْ يَـأْخُـذَ علـى عـاتِقِـهِ الجِهادَ مِنْ أَجْلِ حِـفْـظِ وَصـايا الـرَّبِّ وتطبيقِـهـا. أَنْ أَتْبَـعَ المَسيـحَ يَعْنـي أَنْ أَقْتَـدِي بِحَيـاتِـه، وأَنْ أَتْبَعَـهُ إلـى جُلجُلَـةِ المَحَبَـة. الصَّليـبُ هُـوَ المَحَبَّـةُ الَّـتـي تُصبِـحُ ذَبيحَـةً لِكَـي يَعيـشَ العـالَـمُ حَيـاةً حَقيقيَّـة. وفيمـا يَتَحَـرَّرُ الإِنسـانُ المُـؤمِـنُ مِـنْ عِقـالاتِ حُـبِّ الـذَّات، يَتَقَـدَّمُ فـي مَعْـرِفَـةِ المَسيـح، ويَـرى بِـوُضـوحٍ جُحـودَ العـالَـم. يَعيـشُ مَـأسـاةَ الكَـوْنِ شَخْصِيًّـا، فَيَنـوحُ ويُصَلِّـي مِـنْ أَجْـلِ العـالَـم، ويَحْمِـلُ صَليـبَ إِخْـوَتِـهِ الَّذيـنَ لا يَفصِلُهُـم عَـنْ نَفسِـه".
أضاف: "إِنَّ كِتـابـاتِ القِـدِّيسيـنَ وسِيَرَ حَيـاتِهِـم تَصِـفُ خِبْـرَةَ الَّـذيـنَ يَتْبَعـونَ المَسيـحَ بِـإِخـلاصٍ، حَيْـثُ نَتَبَيَّـنُ كَيْـفَ يجِـبُ علـى الإِنْسـانِ أَنْ يَـأخُـذَ صَليبَـهُ ويَتْبَـعَ المَسيـح. هُنـا يَظْهَـرُ أَمْـرٌ مُهِـمٌّ جِـدًّا. إِنَّ حَمْـلَ الصَّليـبِ هُـوَ طَـريقَـةُ حَيـاةِ المُـؤمِنيـنَ الحَقيقيِّيـنَ كُلِّهِـم، بِغَـضِّ النَّظَـرِ عَـنْ أَنْمـاطِ حَيـاتِهِـم. فَحَيـاةُ الصَّليـبِ لَيْسَـتْ حِكْـرًا علـى الكَهَنَـةِ والـرُهبانِ، بَلْ هِـيَ سِمَةُ كُلِّ مؤمنٍ أكـانَ مِن أَصْحـابِ المِهَـنِ، أو أَرْبـابِ العمَلِ أو العُـمّالِ، أو مِمَّنْ يَتَولّونَ مَسـؤولِيَّـةً ويُمـارِسـونَ السُّلْطَـةَ فـي المُجْتَمَـع. وفـي إنجيلِ اليومِ تأكيدٌ من الربِّ يسوع أنَّ مَنْ أرادَ أنْ يُخلِّصَ نفسَه يُهلِكُها، ومَنْ يُهلِكُ نفسَه من أجلِ الربِّ وإنجيلِه يُخلِّصُـها. فكيف يُخلِّصُ الإنسانُ نفسَه؟ هل يكونُ الخلاصُ ببعضِ الإدعاءاتِ والشعاراتِ، وبالإنتماءِ اللفظيّ إلى المسـيح؟ الجوابُ يُعطيه الربُّ يسوع نفسُه عندما يقول: «مَنْ أرادَ أنْ يَتْبَعَني فَلْيَكْفِرْ بنفسِه ويَحْمِلْ صليبَهُ ويَتْبَعْني». هذا الكلامُ يُخيفُ معظمَ الناسِ لأنّ حَمْلَ الصليبِ ليسَ أمراً سهلاً. الطريقُ السهلُ ليسَ طريقَ المسـيحِ وهو لن يُحاسِبَنا على النيّةِ بل على طريقةِ الحياةِ وهو القائلُ: «تعالَوا إليّ يا مُبارَكي أبي رِثوا الملكوتَ المُعَدَّ لكم منذُ تأسيسِ الـعالم، لأني جِعْتُ فـأَطْعَمْتُموني، عَطِشْتُ فَسَقَيتُموني، كنتُ غريباً فآويتُموني، عرياناً فَكَسَوْتُموني، مريضاً فَزُرْتُموني، مَحبوساً فأتيتم إلـيّ» (متـى 25: 34-36). هكذا خاطبَ اللهُ مَن حَمَـلـوا صلـيبَـهم وعاشوا حيـاةَ المـحبـةِ والـبِرِّ والعطاء. المحبةُ ليست فكرةً مُجَرَّدَةً. المحبةُ هي تَطبيقُ ما نؤمنُ به. يقولُ بولس الرسول: «إنْ كنتُ أتكلَّمُ بألسِنَةِ النّاسِ والملائكةِ ولكن ليسَ لي محبّةٌ فقـد صِرتُ نُحاساً يَطِنُّ أو صُنجاً يَرِنُّ، وإنْ كانت لي النبوةُ وكنـتُ أعلَمُ جميعَ الأسرارِ والعِلـمَ كُلَّه، ولو كان لي الإيمانُ كلُّه حتى أنقُلَ الجبالَ ولم تكنْ فـيَّ المـحبَّـةُ فلستُ بشـيء» (1كو13: 1-2). أمـا الرسولُ يـعـقوب فيقول: «كمـا أنّ الجسدَ بدونِ روحٍ ميّتٌ هكذا الإيـمـانُ بـدونِ أعمـالٍ ميّت» (يع2: 26)".
وتابع: "حياتُنا إذاً هي مرآةٌ لإيمانِنا، ومَن يؤمِنُ أنَّ مَنْ أرادَ أنْ يُخلِّصَ نفسَه يُهلِكُها، عليه أنْ يَمنَعَ عنها كُلَّ ما يُسيءُ إلى تَنقيَتِها وخلاصِها، فلا تعودُ تَكتَرِثُ للمالِ والسلطةِ والمجدِ وكلِّ أشياءِ العالمِ الفانية، إذ «ماذا يَنتَفِعُ الإنسانُ لو رَبِحَ العالمَ كلَّه وخَسِرَ نفسَه» كما سَمِعنا في إنجيلِ اليوم؟ وماذا يُعطي الإنسانُ فداءً عن نفسِه عندمـا يَقِـفُ في حضرةِ اللهِ يومَ الدينونةِ الرهيب؟ هل يُقدِّمُ ثروتَه الطائلة التي لم يُحْسِنْ استِخدامَها بما يُرضي مَنْ مَنَحَه إيّاها؟ أم يُعطي ما جَمَعَه مِنْ ألقابٍ وما وصَلَ إليهِ مِنْ مراكزَ داسَ بواسِطتِها الفـقيرَ، واضطهدَ الضعيفَ، ونَصَّبَ نفسَه قاضياً ودَيّاناً لكثيرين؟ المسيحُ صُلِبَ مِنْ أجلِنا. ماتَ لأنّه أحبَّنا وشاءَ خلاصَنا. وعندما يَدعونا إلى حَمْلِ الصليبِ، صليبِ الخطيئةِ، هو لا يَدعونا إلى العذابِ بل إلى الحياة، لأنّ مَنْ داسَ خطيئتَه، ومحا أنانيّتَه، وتَجَرَّدَ مِنْ كِبْرِيائِه وأخطائِه، هذا يدخُلُ في الفرحِ الحقيقيّ، ويُعايِنُ نورَ القيامةِ البهيّ".
وقال: "لبنانُ يَستَحِقُّ الحياة، وشعبُه المُبدِعُ لا يَستَحِقُّ ما هو فيه. لا يَكادُ يَنقضي أسبوعٌ دونَ أنْ نسمعَ بتَفَوُّقِ طبيبٍ لبنانيّ، أو نجاحِ جـمعيةٍ لبنانية، أو إبداعِ فَنّانٍ أو أديبٍ لبنانيّ، أو اكتشافِ باحثٍ لبنانيّ، أو تَمَيُّزِ مؤسَّسةٍ تربَويَّةٍ لبنانيّة، أو رِيادةِ أُخرى طبّيَّة، أو تألُّقِ فرقةٍ فنيّةٍ أو رياضيّةٍ لبنانيّة، وآخِرُ الإبداعاتِ النجاحُ الكبيرُ الذي حقَّقَتْه فِرقةُ مَيّاس، كلُّ ذلك بجهودِ اللبنانيين وحدَهم الـذينَ يَفتَقرونَ إلى الفُرَصِ في بلادِهم، وقد أظهـروا أنَّ بإمكانِ الحُكَّام أن يَسرُقوا كُلَّ شيءٍ منهم، إلاَّ أحلامَهُم. هؤلاء اللبنانيين الذين يَدفَعونَ ثمَنَ أخطاءِ حُكّامِهم وسوءِ إدارتِهم وقِلَّةِ إحساسِهم بالمسؤوليّة، والذين يُعانون اليأسَ والذُلَّ والمرارةَ، فيما هم يَستحِقون حياةً كريمةً في وطنٍ يليقُ بهم وبطموحاتـهم وإبداعاتِهم، وهم الذين يعطون صورةً مشرِقَةً عن لبنان. الدولةُ تُسْتَعادُ بالإرادة، إرادةِ العملِ والتضحية، باحترامِ الدُستورِ وتَطبيقِه لا تَشْويهِه، بالنزاهةِ والقدوةِ الحَسَنَة، بالتَخلّـي عن المَصـالِـحِ، بالعدالةِ تُطَبَّقُ عـلى الجميعِ، وهذا سَهلٌ إذا صَفتْ النِيّاتُ وانتَفَتْ المصالِح".
وختم: "صلاتُنا أن يُلهِمَ الربُّ الإلهُ نوّابَ الشعبِ كي لا يَعـمَلوا إلاّ مِن أجلِ خيرِ الشعب، وأن يَقوموا بواجِباتِهم بحسبِ ما يُمليه عليهم ضميرُهم، وأن ينتخِبوا رئيساً للبلادِ في أسرعِ وقتٍ ليتحمَّلَ مسؤوليةَ إخراجِ البلدِ مِن ظلمةِ الموتِ إلى نورِ الحـيـاة".